يصعب على المرء وصف ما يحدث من غضب وصخب واستجداء إعلامي في قضية الفنيين الصحيين السعوديين، ولو بحثنا في قاموس الكلمات عن عبارة مناسبة لما يحدث فسأختار وأنا مكره: جحود ونكران لشباب ضحوا ودفعوا المال والجهد والوقت من أجل مستقبل أكثر أماناً لهم ولأبنائهم على أرض الوطن، وسأحذِّر من إشعال فتيلة البؤس والإحباط في عقول الجيل الجديد. ومهما قدَّم المسؤول من حجج تشكِّك في قدراتهم فلن تُقبل، وإن صح ذلك فتلك مصيبة، وتستحق المساءلة؛ فقد تدرب هؤلاء المواطنون تحت إشراف الهيئة السعودية للتخصصات الطبية، وحصلوا على التصنيف والرخصة المهنية، والأهم من ذلك أن المملكة كانت، وما زالت أكبر ساحة للتدريب للفنيين الأجانب في العالم؛ فحسب تجربتي غير القصيرة شهدت فتح أبواب المجال للفنيين الأجانب للتدريب وكسب المهارات في مستشفيات المملكة، ثم الهجرة للغرب، فلماذا إذن هذا الجحود لأبناء الوطن!
يُعتبر التدريب على رأس العمل من أبجديات التوظيف، وينطبق هذا على مختلف التخصصات الصحية وغيرها، وأبناء الوطن أولى بفرص العمل والتطور من الفنيين المستوردين، ولا أعتقد أن المسألة تدخل في النصح والوعظ؛ ففرص العمل حق من حقوق المواطن، وما دام هؤلاء أنهوا التدريب الفني الصحي، وحصلوا على التصنيف، فيجب على المسؤول أن يوفِّر لهم وظائف في أسرع وقت ممكن، وأن يضع برامج لتطوير قدراتهم من خلال التدريب التطبيقي في مكان العمل، والفحص الدوري من قِبل الهيئة السعودية للتخصصات. وما يحز في النفس أن يدخل مستقبل هؤلاء الشباب وأمنهم المعيشي في دائرة مغلقة لا تقبل حتى الحوار حول مستقبلهم الضائع.. أحياناً أشعر بأن هناك توجساً من توطين بعض الوظائف بالكامل، وأن تظل نسبة محددة مخصصة للعمالة الأجنبية، وقد أكون مخطئاً في توجسي، وأتمنى ذلك، ولكن للأسف الواقع يدل على غير ذلك؛ إذ يستمر استيراد القدرات الأجنبية في ظل انتظار الفنيين السعوديين للتوظيف.
يكاد لا يمر يوم في الإعلام المحلي من دون ذكر لأهمية تنمية الموارد البشرية وأهميتها في الاستقرار والأمن المعيشي، ومع ذلك يظل الحال لا يتجاوز بعد الطرح النظري، ودائماً ما يردد المسؤول في الإعلام حرص الدولة على تطوير وتوظيف القدرات الوطنية، وليس عندي شك في ذلك، لكن الوضع يظهر في صورة متناقضة عن الطرح النظري عندما نتابع قضية حية مثل توظيف الفنيين الصحيين، فالمسؤول الذي كان يتحدث عن استراتيجية الدولة في تطوير القدرات الوطنية وتوظيفها يدخل دائرة الصمت على طريقة «لا أسمع ولا أتكلم ولا أرى»، ويزيد من الأمر سوءاً غياب الطرق الرسمية والمعتمدة لإجبار المسؤول على الرد، ثم التواصل مع مطالب الذين يتحدثون بحرقة كل يوم على وسائل الإعلام.
أنصفوهم قبل أن يحترق الأمل، وقبل أن تذبل سنوات عمرهم الذهبي وهم ينتظرون عطف المسؤول. ابحثوا عن حل عاجل جداً، قبل أن يتحوَّل الأمر إلى مأساة. امنعوا استيراد الفنيين من الخارج، واستقدموا خبراء في التدريب والتطوير المهني للفني السعودي؛ لنتعلم من تجارب العالم المتقدم، الذي يجرِّم توظيف الأجنبي في وجود عمالة وطنية تنتظر التوظيف. وعلى المسؤول أن يعني أن محاولته لاستقطاب فنيين من الخارج تُعتبر انتهاكاً لحقوق الوطن وهؤلاء الفنيين.
ما أجمل أن يشعر المرء بالعزة والفخر والانتماء في بلاده، وما أبشع أن يشعر بالإحباط والكآبة والإقصاء على تراب وطنه الغالي، تدخل قضية الفنيين الصحيين في خانة الإحباط والتحدي لما يطلق عليه بمشروع التوطين، ولا أعلم لماذا تُستثنى المؤسسات الحكومية من برنامج نطاقات الشهير، الذي حصل على دفع إعلامي كبير، وما زلنا ننتظر نتائجه.. أطلقوا عليه ما شئتم من ألقاب، لكن وظفوا هؤلاء؛ فما أصعب أن يعيش شباب في عمر الزهور على قارعة الطريق؛ فقد دفعوا مالهم وشبابهم من أجل أن يتعلموا ويعملوا في بلادهم؛ ولا بد من استيعابهم في المرافق الحكومية الصحية الكثيرة.