عنوان هذا المقال محاكاة لعنوان كتاب (تقديس الأشخاص في الفكر الصوفي) لمؤلفه محمد أحمد لوح، الذي هو في الأصل، رسالة ماجستير تقدم بها الباحث للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، يهدف من خلالها بيان منهج أتباع الصوفية في تقديس أوليائهم ومشايخهم، وزعمهم ببركة هذا التقديس ورفع منازل المقدسين فوق منازل البشرية، تذكرته إبان بحثي للدكتوراه، وأردت إسقاطه على أوضاعنا المعاصرة وما شاهدته ولمسته من غلو واستغراق في الإطراء يصل عند البعض لدرجة التقديس، تجاه من يحبون، ويلهثون وراءه، من أهل العلوم والفنون المختلفة، سواء كانت دينية (دعاة ووعاظ ومفسرو أحلام) أو فنية (أهل الطرب والغناء) أو رياضية (لاعبو كرة القدم) أو ثقافية (كتاب مثيرون) وهو الغالب، والتقديس بمفهومه الشامل يدخل في باب الغلو «العقدي» الذي نهى الشارع عنه، وهو المبالغة في الشيء والتشديد فيه بتجاوز حد الإسراف.
والغلو نوعان: اعتقادي وعملي.. فالاعتقادي: ما كان متعلقاً في كليات الشريعة الإسلامية وباب العقائد.. والعملي: ما كان محصوراً في الفعل سواء كان قولاً باللسان أو عملاً في الجوارح والنصوص من الكتاب والسنة وأقوال السلف.. مستفيضة في هذا الجانب ليس هذا مجال ذكرها، طبعاً لا أريد الاستطراد لما أنا بصدده، بقدر ما لفت نظري أمر، كثيراً ما ترددت في طرحه، خشية تفسيره على غير وجهه، لكن لما رأيت استفحال أمره وخطورته بين شبابنا بالذات، رأيت ضرورة تناوله من وجهة نظري.
ديننا دين الوسطية، وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء..} (البقرة 143)، ونهي وتحذير عن الغلو والتشدد قال تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ..} (النساء 171) والرسول عليه الصلاة والسلام، يقول محذراً أمته من مغبة الغلو وآثاره (إياكم والغلو إنما أهلك من كان قبلكم الغلو) لكن يا ترى هل واقع البعض لدينا وخاصة من الشباب المتحمس، يتوشح هذا المنهج الوسطي ويعض عليه؟.. لا أتصور ذلك -وللأسف الشديد- ونحن نشاهد ونسمع من خلال الأفعال والأقوال ما ينافي هذه الوسطية على طرفي نقيض، نحو الغلو والجفاء.. شاهدوا المعجبين من الجنسين ببعض الدعاة والوعاظ ومفسري الأحلام، وببعض الفنانين والمطربين والمنشدين، وببعض الرياضيين، وببعض الكتاب، وسائط التواصل الاجتماعي تكشف لكم وبوضوح تام ما أميل إليه. بعض الشباب المتحمس، سمعته يوماً بأذني، يقول عن أحد الدعاة! بأنه «إمام» لمجرد أنه مثير ومعاند في طرحه.. والآخر سمعته في إذاعة القرآن الكريم يقول عن ضيفه «سماحة شيخنا» وهو لم يرتق لهذه الدرجة، وبعض المغرمين ببعض الكتّاب يطلق عليه لقب «الخبير أو المثير»؛ والآخر تجاه بعض اللاعبين وبعض المطربين والمطربات حدث ولا حرج، إنه الغلو والتقديس المفرط لا غير!.. كنا ننقد بأطروحاتنا الجامعية، الغلاة والجفاة من أهل الفرق والمذاهب والتيارات الفلسفية المنحرفة والمنتسبة للإسلام، إما نحو الغلو أو الجفاء.. وما ندري أن أمثال هؤلاء بيننا؛ نعم نحن وإياهم شركاء في كل شيء، إلا بهذا التوجه والطبع الخاطئ، إما يحبون من يهيمون في حبه لدرجة العشق والغرام والتقديس، أو يبغضون من يخالفهم لدرجة القذف والتجريح والتشهير والحط من قدرهم، تبعاً لأهوائهم المنفلتة وغير المنضبطة، يوم أن نأينا بأنفسنا عن منهج الوسطية الذي ارتضاه لنا ربنا جل جلاله، ووجهنا إليه حبيبنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم، ولج بعضنا باباً، طالما حذر منه الشارع الحكيم، ودخل الآخر نفقاً مظلماً لا يسعه الخروج منه، حتى يلج الجمل في سم الخياط، والواقع يصور ذلك!.. إنها أبواب الفتن المتلاطمة، كقطع الليل المظلم، لم يسمع هؤلاء، المقدسون خاصة من طلبة العلم الشرعي «المبتدئين» لبعض الدعاة والوعاظ، أصحاب الفتاوى المثيرة، لنداءات العقلاء من علمائهملمعتبرين وأهلهم وولاة أمرهم الناصحين، ويحتكمون لوسطية شرعهم القويم، بل سلكوا طرقاً محفوفة بالمخاطر، عبدها لهم عباد الدينار والدرهم والشهرة والإثارة، يشحنون عواطفهم الجياشة، كثيراً ما أوقعوهم في المهالك وجروهم للمخاطر، حتى إذا وقعت واقعتهم تخلو عنهم، وكان حالهم، كحال الذي ذكره الله بقوله: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم..) الآية... ودمتم سالمين.