في هذه الأيام تحدثتْ الصحف عن فقراء جنوب إفريقيا بأنهم يتعالجون من الإيدز بأكل روث البقر، فهذا من الفقر، وقد يصبح هذا العلاج مما يُتَّخذ مع الزمن عادة مستمرأة؛ حيث إن العجائب والغرائب في عادات الأمم والشعوب تبدأ صغيرة بالتقليد،
ثم تُستمرأ بوصفها عادة راسخة. وقد سجل ابن بطوطة، بوصفه واحداً من الرحالين العرب، نماذج من عادات الشعوب وطبائع الأمم في رحلاته، منها ما هو مستظرف، ومنها ما هو مستهجن.
لكنّ الأمم تتغير عاداتها مع الأيام، ويستحدثون طبائع لم يكن أجدادهم يعرفونها؛ ليستجد في حياتهم عادات جديدة مستحدثة، كما هي عادة الإنسان في محبته الأخذ بكل شيء جديد؛ ففيه تغيير لما هو في معهود الناس العاديين في حياتهم، حسب نمط الروتين السائد في مجتمعهم؛ ليكون هذا الأمر مستحدثاً عندهم مع الزمن والفهم لذلك الأمر بعد أن أصبح جزءاً من عاداتهم المألوفة، بما صار وراء ذلك الأمر من ترغيب أو تعديل.
والإنسان إذا ألف شيئاً وتعوّده صار عنده وعند من حوله أمراً عادياً، وطباعاً استمرؤوها، كما قال الشاعر:
مُنِعتُ شيئاً فأكثرتُ الولوع به
أحبّ شيء إلى الإنسان ما مُنِعا
ولكن الأمر قد يكون أخذه الآخرون تقليداً، أو استمرأته نفوس بغير قناعة، وللضرورة من الفقر، أو الحاجة أو الجهل، والأسباب كثيرة، وللناس فيما يعشون مذاهب. وتكثر العجائب عند ابن كثير في تاريخه، وكل إنسان في أسفاره يرى أشياء لم يألفها في بلاده، ولا في مجتمعه أو مجتمع قريب منه، فينفر منها.
لذا نرى أن من يمر ببعض البلدان بعدما تقاربت الديار، بسهولة المواصلات وما يتبعها من تسهيلات، يرى في مآكل بعض البلدان ومشاربهم، فضلاً عن العادات والتقاليد لدى الساكنين، أموراً تختلف عما ألفه في بلاده؛ ما يلفت النظر إلى أهمية إيراده على أنه من العادات الراسخة في تلك البيئة، وغير مرغوب فيه في بيئته هو. وللناس فيما يعشون مذاهب، سواء في المأكل أو الملبس أو المركب والمسكن، وغير هذا.
ومثل هذا ما يراه الإنسان في الأسواق من أنواع مختلفة متلونة، حتى بلغ الأمر ببعض الناس إلى البحث عن كل شيء غريب، أو ابتداعه حتى يُعرف بذلك الأمر المستنكر، وفق المقولة “افعل المنكر حتى تُذكر”، كما حصل في أوروبا قبل سنوات بأعمال فِرَق الهبس والبتلز لِباساً وعادات وأشكالاً.
فالمخالفة في العادات يلمسها المسافر؛ لأن من كل بلد وجهَيْن: بارزاً وخفياً، فالبارز هو المألوف في كل مجتمع، أما الخفي فهو الذي لا يدركه المرء بسهولة، إما بمرشدين أو بإعانة من المقيم في تلك الديار. وهذا الوجه هو الذي سنبرز بعض جوانبه؛ إذ سأورد شيئاً مما رأيته في أسفاري عرضاً، وليس على سبيل الاستقصاء؛ فقد برز أمامي وغيري أشياء كنت أراها من العجائب، وهي عند أهلها أمور مرغوبة، ذلك أن من يقرأ التاريخ كتاريخ الطبري وابن خلدون في تاريخه ومقدمته، وغيرهما من كتب التراث العربي، لا يستغرب وجود كلمات من بعضهم عجيبة أو غريبة من العجائب في الأمور المستغربة، ويتبيّن مثل هذا كثيراً كما جاء عند الأبشيهي في كتابه (المستطرف في كل فن مستظرف)، وعند الأصبهاني (محاضرات الأدباء)، خاصة ما يأتي عندهم في سير علية المجتمع والسمر، وفي العصر الحاضر يكثر هذا في البلاد التي يفد إليها السياح من كل فج وراغبو التجديد ورؤية وتذوق شيء لم يكن معهوداً عندهم. وهذا الباب واسع، والمسببات له كثيرة، ويكفينا إيراد النماذج؛ إذ في هوليود (مدينة الفن بأمريكا) عجائب في المباني والسيارات، وغيرها؛ لأنهم ملوا المألوف واستحدثوا العجائب.
وعندما زرتُ السنغال رأيت كثرة التعدد في النساء، وكثرة الأطفال، وربُّ الأسرة دخله ضئيل جداً، وبالاستيضاح بأن هذا يُنتج عدم رعاية الأطفال وتعليمهم وتغذيتهم، كما رأينا أطفاله لا لباس يسترهم، فقال محدثي: إن زوجته الأولى هي التي تخطب له الزوجات الأخريات، والزواج بمهر ضئيل جداً، حتى تكون أميرة بينهن، بمنزلة والدته، تأمر وتنهى، والجميع يسمعون لها، ويتساعدن في طلب المعيشة بالصيد أو الزراعة، أما الزوج فليس له عمل، كما أن طائفة من الشيعة لا يأكلون الأرنب، ويعتبرونه حراماً لتعليلات عندهم.
والوضع في السنغال بعكس جيرانهم في موريتانيا؛ إذ المرأة لا ترغب شريكة لها في الحياة الزوجية؛ لذلك تشترط في العقد لا قبلها ولا بعدها، والنساء هناك يتزوجن في سن مبكرة في التاسعة، معبرين بأن هذا قدوة بالسيدة عائشة رضي الله عنها، وقد رأيتُ عياناً عندما كنا في ضيافة مسؤول كبير منهم، إذ بينما كان يحدثنا بأمور كثيرة من عاداتهم قطع حديثه، وقال: سوف أدعوا وأمِّنوا على دعائي. ولم نسأله عن السبب، فقال: أنا كما ترون في الأربعين من العمر، فإذا هو يقول: اللهم أهلك زوجتي، اللهم عجل بموتها. فلم نؤمن، وسألناه عن السبب، فقال: أنا كما قلت لكم في الأربعين من عمري، وزوجتي هي ابنة عمي، تزوجتها وأنا وإياها على صغر، وكان من شرطها في عقد الزواج لا قبلها ولا بعدها، وهي الآن مريضة، وعميت، وهي أم أولادي، فأتمنى الخلاص منها بالموت؛ كي أتزوج من دون هذا الشرط، وأرتاح في حياتي الباقية.
- وعن طريقة تربية البنات، وتهيئتهن للحياة الزوجية، سمعنا منهم عن عادات غريبة، منها:
1 - أن البنت إذا بلغت السادسة يُعهد بها إلى مسمِّنة؛ حيث يرون أن السمنة نوع من جمال المرأة.
2 - وفي السابعة تبدأ التمرينات على عضلات العجيزة؛ حتى تنزل وتكبر هذه العجيزة التي تهتز كسنام الجمل عندما تمشي، وقد لاحظناه في المسنات من النساء هناك، وفي المدينة المنورة؛ لأن جاليتهم هناك عياناً.
3 - لذا أرونا في مكان خاص بطرف سوق نسائي مجموعة من الفتيات بعضهن ينام على بطنها، فقيل لنا هؤلاء في عرض للزواج؛ حتى لا تتأثر العجيزة.
4 - والمرأة إذا تزوجت لا بد أن يصحبها لبيت الزوجية مجموعة من النساء الإفريقيات للخدمة، والزوجة متفرغة آمرة ناهية فقط، وهؤلاء الملوّنين رجالاً ونساء للخدمة خاصة، ولهم مشكلات عديدة، وهم فقراء.
5 - قال لنا واحد من الأثرياء لما يملكه من الإبل والغنم؛ حيث إنه يملك ما يقرب من 400 من المماليك نساء ورجالاً، وسيهدي لنا مجموعة منهم؛ لأننا تلك الأيام عرفنا أن الرق قائم، فاعتذرنا عن عدم أخذ هذه الهدية شاكرين له؛ لأن الرق عندنا محرَّم، وبأي صفة ندخلهم المملكة.
- وهناك عادات غيرها لكنني أعتقد أن هذه الحالات وغيرها ستنمحي مع التطور العلمي، خاصة النساء اللواتي يتسابقن على الدراسة في الجامعة عندهم، وعلمت أن هناك عدداً منهن تسنمن مراكز عملية مع ارتفاع التعليم؛ فلا بد أن يؤثر هذا في عادات كثيرة في الأسرة والزواج والملبس والمسكن، وطريقة بيع حليب الإبل.
- أقام لنا أحد المسؤولين الكبار مأدبة في بلدته أم القرى، لكنه قال سوف نأتي لكم بسيارات خاصة الساعة الخامسة عصراً؛ لأن هدوء العواصف والأتربة لا يبدأ إلا في ذلك الوقت لكثرة الرمال. وعندما وصلت السيارات، وهي من الجيوب الألمانية، وهم متعودون على قيادتها العنيفة في الرمال الصعبة العالية كالجبال، وصلنا منهكين عند المغرب، وفي مكان خالٍ لا أنيس فيه قال معاليه هذه بلدتي، وسميتها أم القرى تيمناً بمكة المكرمة، ولم نجد فيها شيئاً عائماً إلا بئر ماء، ولا عليه دلالة من بناء أو معدات.
وبعد قليل بدأت تفد رعايا الإبل مع رُعَاتِها والأغنام، ثم بدأ الرعاة يبنون الخيام، وأخذوا في إعداد الولائم والذبح والتنويع، وتذكرت مآدب العرب قديماً مثلما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر (كثير الرماد طويل العماد إذا ما شتى)، وكذا حالة البادية عندنا قبل توطينهم في الهجر.
أما مجالس السمر فعلى ضوء النجوم والقمراء. ولما جاء موعد الأكل أشعلوا سِراجاً، وهذا لكي يستذكروا ما قرؤوه في المحافظ عن ظهر الغيب، ومثل ذلك المطولات الشعرية والقصص وأيام العرب؛ لأنهم في ذهابهم مع مواشيهم يقرؤون ويعتمدون على الحفظ، وحصلت بين بعضهم مسابقات في الحفظ ومناظرات.
وقد أعادوا في هذه الليلة أمجاد العرب ورواتهم على حقيقتها، والمحافظ شبيهة بالمدارس، وما يكتبونه على ألواح.
- وفي اليوم التالي كنا في ضيافة أحد المسؤولين، وأجاد في تنويع المآكل كما هي عادتهم في الكرم. ومما لفت النظر كلمة أول مرة نسمعها، وهي بعد الأكل يدعون بـ”أكل طعامكم الأبرار، وصلت عليكم الملائكة إلا جبريل”، وعند السؤال عن هذا الاستثناء قالوا: جبريل للشاي الأخضر، فطُبّق هذا عملياً إذ بعد الأكل سمعنا صاحبهم يقول للجميع “تبطحوا تبطحوا”، ولم نعرف المراد، إذ بدأ يرمي لكل واحد مخدّة، وأكدوا علينا بالتبطح، فقال صاحبي، ما رأيك؟ قلت لن نبدأ ولا ندري ما المراد؟ فننتظر حتى يبدؤوا ثم نعمل مثلهم، على رأي المثل عندنا “يا غريب كن أديب”.
فلما رأيناهم، وغالبيتهم مسؤولون في الدولة، كل أخذ مخدته وانبطح على بطنه وهم يتحدثون، جاء صاحب الشاي الأخضر الذي عليه الاستثناء “إلا جبريل” بإبريقه الصغير الأنيق فكان يصبه بطول يده ارتفاعاً فيمتلئ الفنجان بالزبد وليس بالشاي، فلم يتبق منه إلا النزر اليسير، لمهارة ذلك الذي يسكب الشاي بأسلوبه المتميز، وبعد الشاي قدموا لنا حليب الإبل في صحافٍ خشبية من صناعتهم، الذي يمتاز بالرغوة العالية، التي تغطي وجه من يشرب. وعندهم تفاضل في أنواع حليب الإبل؛ لأن بعض مُدنهم في مراعي الإبل والغنم، وبيوتهم من الخيام جوار المراعي، ومشايخهم يتنقلون معهم، إذ تجد بعض القرى اسماً بلا مسمى.