يخيّل لي أحيانًا أننا نخفي أو في أحسن الأحوال نختزل كثيرًا من قضايانا العالقة المتعلقة بكل من العلاقة بالعصر، العلاقة بالتحولات، العلاقة بأنفسنا، العلاقة المتوترة بتعدد المجتمع الثقافي والفكري والمذهبي، العلاقة الخارجية مع العالم والعلاقة بالسياسي في جبهة واحدة هي جبهة الخلاف إن لم أقل التناحر على موضوع موقع النساء وفعالية النساء أو تعطيل النساء بالمجتمع.
فقبل ربع قرن على مشارف نهاية السبعينيات الميلادية وعبر صفحات هذه الجريدة، نعم جريدة (الجزيرة)، طرح على صفحة (عزيزتي الجزيرة) سجال اجتماعي مبكر حول قيادة المرأة السيارة. وعلى خلاف السجال الذي انطلق من جريدة (الجزيرة) أيضًا في موضوع (إصدار بطاقة هوية مواطنة للمرأة السعودية) في منتصف التسعينيات الميلادية الذي توج بقرار رسمي يعطي للمرأة حق استصدار بطاقة أحوال مدنية تُعرفها وتعترف بها كمواطنة فإن سجال قيادة المرأة السيارة قد توقف دون أن يعني ذلك -على ما يبدو- توقفه كهاجس اجتماعي مشروع خاصة مع تزايد الحاجة الاجتماعية التي تلح وتستدعي إعادة طرحه ليعاد نقاشه ويعاد النظر فيه.
والملاحظ أن كلاً من السجالين سجال قيادة السيارة وسجال بطاقة الهوية لم يخل من التوتر في أساليب الطرح والمناقشة؛ نظرًا لتضارب الآراء مع أو ضد كل من تلك القضيتين. وإذا كان اشتداد وتيرة ذلك التوتر وتحوّله في بعض الأحيان إلى حالة من التجريح الشخصي أو التشنج كان يعبِّر عن وجود ظاهرة من التعصب الأعمى فإن فتح باب التحاور في حد ذاته أمرٌ لا بد منه لتعليمنا أساليب الطرح الموضوعية. غير أنه لا بد من القول بأن هناك من ينظر دون تجنٍّ كبيرٍ لسجالنا حول ما يُعدُّ من البدهيات في مجتمعات أخرى بكثير من الاستغراب وكأننا من كوكب آخر لم تصله بعد وسائل الاتصال مع كوكب الأرض ولسنا سلالة الحضارة العربية الإسلامية التي شاركت الأمم في حمل مشعل العلم والحرية والفكر.
وعودة إلى سياق مطلع المقال فإن من يرجع إلى (مجلة اليمامة) قبيل افتتاح مدارس البنات عام 1960م وقبل القرار الرسمي بضم المرأة إلى قافلة التعليم النظامي، يمكنه أن يرصد ظاهرة مشابهة لكل من السجالين المذكورين - سجال قيادة المرأة السيارة وسجال بطاقة الهوية؛ فقد كانت هناك آراء معارضة لتعليم المرأة تصل إلى درجة التعصب وكأن تعليمها سيشكل تهديدًا لاستقرار المجتمع ولأمنه.
وكانت هناك آراء مؤيدة، بل داعية لتعليم المرأة فكان هناك من يرى في تعليم المرأة حقًا شرعيًا لها يجب ألا تحرم منه، بل يرى في استمرار حرمانها من ذلك الحق ما يلحق الضرر بالمجتمع وإمكانية تطوره.
أذكر تلك الحالات من السجال فيما يتعلق بقضايا المرأة في المجتمع السعودي، ويحضرني ذلك التساؤل الذي كثيرًا ما نواجهه من الصحافة العالمية: لماذا تُعدُّ قضايا المرأة في المجتمع السعودي ترمومتر التحوّلات الاجتماعية؟ لماذا المسائل المتعلقة بالنساء هي مثار جدل حاد في المجتمع بما ترتفع فيها الأصوات وتظهر فيها الانقسامات وتتعدد فيها المواقف بينما لا تكاد تظهر تعددية الآراء ودفاعية المجتمع في القضايا الأخرى مثل قضايا الاقتصاد وقضايا الإنتاج وقضايا البترول وقضايا الاستهلاك وقضايا التخطيط والسكان والتنمية وقضايا الماء والصحة والتعليم والعمل والحريات العامة والمشاركة السياسية والاجتماعية وقضايا الرأي والعلاقات الخارجية أو سواها؟ فمعظم هذه القضايا بحسب أسئلة تلك الصحافة تمنح فيها الحكومة ثقة مطلقة بحيث ليس لها إلا أن تفصل وللمواطن أن يلبس بشكل ينمّ عن حالة تسليم وتناغم وانسجام لا يبدو فيه أي تعارض أو تعدد في الآراء، بينما عندما يتعلق الموضوع بالمرأة وإن كان الأمر لا يزيد على إدخال تغيّرات طفيفة لتفعيل موقعها في المجتمع أو لرفع ظلم تاريخي قد تكون تعرضت له، (مثل القرار المنصف قبل أعوام الذي قضى بمنع الحجر والعضل ووضع عقوبات لمثل هذه التجاوزات)، إلا وتظهر المعارضة وتحتد الاختلافات وقد تثور حفيظة البعض بشكل ينحي باللائمة على المجتمع وبطانة الدولة إن لم يكن على الدولة وعلى ورطانة الليبراليين والضغط الدولي الخ، ويصبّ جامّ غضبه على من يخالفه الرأي ولا يتورع عن الانتقاص من أهلية النساء بدعاوى تتنافى مع الشرع والعلم معًا كدعوى ضعف أو قصور المرأة، أو قد لا يتورع عن توجيه التهم الاستفزازية لمناصري النساء والتشكيك في النوايا.
فهل تحتل النساء ذلك الموقع الرمزي في الوجدان الجمعي لدرجة أن تصبح النساء الجبهة الوحيدة التي يباح فيها وعليها الاختلافات أو الائتلاف؟ هل يعجز المجتمع عن المجاهرة بالتعدد والاختلاف بدون التذرع بالنساء؟ هل النساء مجرد موضوع ولسن عضوًا عاملاً في القضايا المطروحة على بساط السجال؟
غير أني وإن كنت أرى من وجهة نظر سيسيولوجية ضرورة طرح بعض أمثال تلك التساؤلات للكشف عن الأسباب والعوامل التي تجعل قضايا المرأة تحديدًا مثارًا للجدل على حساب الخفوت أو التنصل من القضايا الأخرى وبما يعتم على الأبعاد المجتمعية والإنسانية والحقوقية الخاصة بموضوع النساء، فإنني على مستوى التعامل صحفيًا مع تلك الأسئلة وخصوصًا على صفحات صحافة أجنبية غالبًا ما أحيل السائل إلى الجوانب الإيجابية لوجود هذا النوع من السجال. فعلى سبيل المثال قلت لصحفي من صحفية أجنبية مرموقة، حين سألني عن ظاهرة السجال في القضايا المتعلقة بالنساء تحديدًا، عليك قراءة التاريخ الاجتماعي لمسارات ذلك السجال؛ فبينما كانت المرأة في سجال التعليم غائبة أو شبه غائبة وكانت مجرد موضوع لذلك السجال والجدل فإن عددًا من النساء السعوديات اليوم يشاركن في تحريك مقود السجال، وليس مقود السيارة بعد، وذلك لتوجيه السجال إلى وجهة منتجة تنصف المرأة السعودية ممن يريدون أن يكونوا أوصياء عليها، سواء كانوا من الرجال أو النساء.
وهذه الإجابة التي تحاول أن تتحلى بالدبلوماسية فلا تتيح حشرنا في خانة العداء للحرية أو لحقوق الإنسان بالمطلق، حين أدلي بها أقولها صادقة وليس لمجرد المراوغة مع الطرف المحاور؛ لأنها في رأيي تشير إلى “نصف الكأس الملآن”، أما النصف الفارغ من الكأس فليس لي ولا لسواي أن نزعم أننا لا نراه وبالتالي فإن واجبنا الوطني -كما جاء في مقال د. جاسر الحربش ليوم أمس الأول في صحيفة الجزيرة- أن نملأ فراغه بأيدينا وبما يعبِّر عن أهلية النساء والرجال في صنع خيارات المستقبل. إذ إننا مؤهلون لأن نسمي الأشياء بأسمائها ونطرحها بشجاعة وشفافية دون مواربة ودون تحويل النساء إلى مشجب تعلق عليه القضايا العالقة بما فيها مسألة النساء التي هي ليست مسألة نسوية وحسب، بل ومسألة سياسية من طراز رفيع ككثير من القضايا الاجتماعية والثقافية والفكرية الأخرى. فلا نصير كما تقول شاعرة عربية: (نصف نيام ونصف عوام وكل لا يكل عن التلجلج في الكلام).
***
مسافر على طريق لم تكن آهلة:
ليس السؤال لماذا اختار الشاعر أحمد الصالح مسمى مسافر كاسم رمزي لذاته الشاعرة، ولكن السؤال لماذا اختار الشاعر في وقت مبكر من عمر الحداثة الشعرية السعودية أن ينطلق إلى آفاق كان دونها وهادًا وعتادًا من العادات والقناعات الشعرية والفكرية القديمة؟! لماذا خرج الفتى من عنيزة إلى ما وراء الرياض في وقت مكلل بغموض وغواية أوقات السحر ليسافر على طريق جديدة في الشعر لم تكن آهلة ولم يكن فيها قطعًا صحبة صاخبة إلا قلة خافتة من الغواووين. سيبقى مثل هذا السؤال وسواه من الأسئلة المتعلقة باللصوص النار أو حاملي أوزار شب شعلة الشعر في الظلام في جميع المجالات وليس المجال الثقافي وحسب سؤالاً يحتاج للبحث والدراسة والتحقيق والتوثيق. وكم أتمنى والنادي الأدبي بمبادرة من د. عبد الله الوشمي وزملائه وزميلاته يقيمون ليلة لبعض الشعراء والمثقفين ممن زهدوا في الأضواء أو ممن لا يزالون يعانون أو يستمتعون بوهجها، أن يجري تعميق هذا الاحتفاء بتكليف بعض الباحثين والدارسين من ذوي الاهتمام والاختصاص باكرًا للقيام وتقديم بحوث نقدية أو قراءات تحليلية في أعمال أو سيرة المحتفى بهم. مع كل التثمين للمبادرة بحد ذاتها. كان بودي المشاركة في ليلة الشاعر مسافر لولا قسوة ظرف صحي نمرّ به، ولولا إنني لم أعلم بخبر الليلة إلا ظهيرة يوم الأحد ولذا فإنني اكتفي بتوجيه تحية مبللة بمطر نيسان للشاعر الذي قاوم قسوة الصحراء بماء الشعر الذي أعلن بشجاعة ومبكرًا “سقوط العراف”، كما حرض المليحة على حريتها.
واختم بمقطع من قصيدته لديوانه: انتفضي أيتها المليحة..أيتها المليحة انتفضي:
انتفضي..!!
للحرف سطوة
وللكلام صولجانْ
قولي.. لكل العاشقين
الصمت مات.. منذ الآن
انتفضي..!!
Fowziyaat@hotmail.com