** يتحرك الواحدُ فينا بين مجالس كثيرةٍ ؛ فيرى قاسمًا مشتركًا بين أحاديثِ من يمثل الكهولُ حضورَها الأبرزَ ملتفتين للأمس “الجميل”، وما نسُوه أو تجاهلوه أو حتى جهلوه - خلال عقود - يرجع إليهم في لحظات؛ فكأنهم يقرؤون لوحةً أو يستدعون صورةً مليئةً بالتفاصيل، وللشباب جلساتٌ مماثلة يسكن اليومُ والغدُ المدى الأرحبَ فيها.
** ينظر الواحد فينا للمسافةِ الأبعد؛ فالماضي الذي تولى يسترجعُه الحنين، والمستقبلُ الذي سيأتي يعانقه الطموح، والشيخُ يذكر شبابه، والفتى يتخيل شيخوختَه، وكذا يمر العمر.
** هل الماضي جميلٌ فعلا؟ ليس بالضرورة، ومن عاش مرحلةَ ما قبل الكهرباء والماء، ورحلةً بلا سيارةٍ أو طائرة، وحياة شظفٍ دون وسائط ترفٍ وترفيه وتقنيات تواصل لن يرضى بها لو تمثلت أمامه، لكنه الشوقُ إلى أيام الفتوة والأحلام، والهروبُ من رحلةٍ توشك على التلويح بوداع.
** “نبني كما كانت أوائلُنا”؛ فكذا أُفهمنا، وزاد بعض المُحْدَثين أننا نفعل “فوق ما فعلوا”، وليتنا، وكان درسُ الإنشاء العتيد يغرقنا في تأصيل هذا المفهوم العاطفي الموصل للرضا، أو لعله الداعي إلى الخمول؛ فما دمنا في الأثر فلن نسبق المؤثِّر، ويكفينا إن اقتربنا من خطوه وتبعنا تخطيطَه.
** لو كان هذا منهجًا سائدًا لتوقف التاريخ، ولصارت الأمم مستنسخةً يكفي أولُها عن آخِرِها، ويغني السلفُ عن الخلف؛ غير أنه جانب من الكلام المحكيِّ الذي يوحي بالطاعة الظاهرة دون أن يعني ذلك التزامًا أو يفرضَ إلزاما.
** أحيانًا نتمنى أن نكون مثل “أوائلنا”؛ فالعودة إليهم تطورٌ يتجاوزُ فوارق الأعوام والأفهام التي يفترض فيها - بما صاحبها من ثوراتٍ صناعية وتقنية واتصالية - أن تجعلنا متقدمين على السابقين، وهذه دلالةٌ نكوصيةٌ؛ فمن كان أمسه أفضلَ من يومه فلأنه يعاني خللًا في بنيته.
** يبدو الأمرُ أشبهَ بالحنين لما تولى، ربما لأن الحاضر غيرُ واعد، وربما هي محاولةٌ لإعادة لعبة الحياة، وكما الفرد يجيء المجتمع وتجيء الأمة التي خلا حاضرُها مما يبهج فصارت حفيةً بتحفيز الذاكرة واسترجاع الذكريات.
** هل تجتذب العالم المتقدمَ أيامُ أسلافهم الممتلئةُ بالإنجاز؟ ليس تمامًا؛ لأن البناء متواصلٌ ودورهم الإضافةُ إليه لا المدح والفخرُ والرثاء، أما من تهوي به الأيام والأعوام نحو الأدنى فإن تراجعَه نحو الأمس واستخراجَه للرّمس لا يعدو أن يكون إحباطَ العاجز عن تسجيل شيءٍ يستحقه التأريخُ أو يتوقف عنده.
** من يتمنى العودة إلى زمن الحرمان فهو لم يجد في الوفرةِ ما توقعه، ونستعيد زمن الانتصارات لأننا شبعنا هزائم، وحين تتغير الحال لن تتعددَ إشارات الدوران للخلف؛ فالطريق يمتدُّ أماما.
** الآتي وعدٌ وموعد.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon