حدثني أحدهم عن جاذبية ظهور الألوان في مدينة الرياض في أشكالها الطبيعية خلال الأسبوعين الماضيين، فقد ظهر الأزرق والأخضر والأصفر في كامل نقاوتها الطبيعية، بعدما أزالت موجة الأمطار الأخيرة ستار الغبار عن الألوان ليظهر التناسق والاختلاف في أبهى صوره، وفي منظر استثنائي عن الصورة العامة التي يسيطر عليه لون “البيج” منذ عقود، وأذكر أن أحد الأصدقاء طلب مشورتي عن اللون المناسب لواجهة منزله الجديد، فنصحته بدون تردد أن يختار لون البيج، فمهما اخترت من ألوان أخرى ستتحول مع مرور الوقت إلى بيج..
البيئة شاهد على ما أقول، ولون البيج مسيطر تماماً على الذوق العام، فالأشياء من حولك بيج في بيج، حتى الإنسان والحيوان ألوانهم بيج، والمجتمع صبغ كل فعالياته بلون البيج، ولم يعد يسمح بظهور التعددية والاختلاف في الأشكال والألوان، مثلما لا يسمح على الإطلاق بظهور العادات أو التقاليد المخالفة للسائد في المجتمع، لذلك يظهر الجميع في لون واحد غير قابل للتغيير والاختلاف.. بيج فقط لا غير، لذلك لا تتعب حالك صديقي العزيز، اختر لون البيج ولا تدخل في تحدٍّ خسران مع البيئة والمجتمع.
لكني مع ذلك أتساءل لماذا لم تتم ترجمة كلمة بيج إلى العربية على الرغم من أنها بالعربي تعني اللون الأغبر، أو لون الغبار المصفر، وحسب علمي المتواضع ترجع أصول كلمه بيج إلى الفرنسية، فقد استخدم مصطلح بيج أولاً لوصف لون قماش القطن، ومنذ 1920 ميلادي تم استخدامه بشكل واسع في عالم الألوان والموضة والمفروشات والتصميم المنزلي بشكل واسع، ووجد قبولاً منقطع النظير في دور الأزياء والمفروشات وغيرها، وكان ظهور لون البيج أو الغبار إضافة غير عادية إلى تشكيلة التعدد والاختلاف في الطبيعة الغربية، فظهر متميزاً ومختلفاً بين ألوان الطيف وقوس المطر المتعارف عليها، وأضاف لوناً آخر إلى الألوان التي لا حصر لها في مجتمع التعدد والاختلاف الغربي.
يُفضل الجميع محلياً استخدام المصطلح الفرنسي بيج، ويتهربون من ترجمته العربية اللون الأغبر، ولو ترجمناه بالفعل إلى مغبر، أو غبر، فلن يجد القبول، فالغبار أو الوجه الغبر رمز للكدر والكآبة، كذلك المنزل الأغبر يعني المهجور، وكلمة الأغبر التي على وزن الأصفر والأزرق والأخضر مدولها القديم في الذاكرة المحلية مشوه، مثل بقية الأشياء المحلية الأخرى التي يتم تداولها بقيم منخفضة، وليس لها تقدير مهما تميزت، فالأغبر المحلي غير البيج الفرنسي، والمحلي غير الأجنبي، رغماً أنهما يعنيان نفس الشيء، فالكفاءة الغربية تُفتح لها سلالم الرواتب إلى أقصى حد، مثلما فتحت دور المفروشات والأزياء المحلية أبوابها للون البيج، أما المحلي مثل اللون الأغبر، قديم ومشوه وضار، ومحدود الإمكانات، لذلك يتم التقليل من قدراته مهما علت إنجازاته، فهو بالعربي أغبر وليس بيج ..،
لون البيج، الذي وجد فيه الغربيون إضافة لألوان الطيف، يختلف سلوكه محلياً ويتصرف بقسوة كاللون الأغبر ضد الألوان الأخرى، فلا يسمح بتعددها في المجتمع السعودي، ولا يسمح بظهور الأشكال الأخرى، وتكاد تختفي الألوان تماماً تحت ستار طغيانه وانتشاره الكثيف، فالاختلاف والتعددية ليس لها جذور في المجتمع السعودي بسبب ظاهرة اللون الموحد، والألوان تتحول مع مرور الوقت إلى أغبر، والمهن والمهارات الوظيفية تُختزل في وظيفة سعودي، ومهما حاول أحدنا أن يضيف للبيئة لوناً آخر للتميز يفشل أمام طغيان لون البيج على الأشياء..
من أجل أن تتميز رغماً عن البيج تحتاج إلى معجزة، أو أن تعيش في أو بالقرب من قصر عالي الأسوار لا يتعرض لموجات الغبار، ولا تدخله أشعة الشمس، وفيه مسطحات خضراء لا حدود لها، والأهم أن تغيب خلال النهار، وتستيقظ في الليل، وأن تؤمن بشكل دوري حراسة المبنى لئلا يدخل الغبار، وتقوم بتنظيف الجدران من آثار الغبار العالق، وذلك من أجل أن يستمر لمعان ونقاوة الألوان في حياتك الخاصة.