ألا تلاحظون.. فجأة هدأ كل شيء. خف الضجيج الذي ملأ الأسماع والأبصار. بدأت القنبلة من جامعة الملك خالد تلتها دعوات محتجة من طلاب جامعات عديدة في شتى أنحاء المملكة على التويتر والفيس بوك. ثم فجأة هدأ كل شيء وكأن شيئا لم يكن وبراءة الأطفال في عينية (كما تقول القصيدة المشهورة لنزار قباني)!!

كانت جامعة الملك خالد قادرة على التصرف بسرعة برعاية من أميرها النشط وأظن أن الشيء ذاته تم في جامعات أخرى. لكن هل انتهت مشكلات الطلبة فعلا في الجامعات؟ وماذا يفعل الطلبة في جامعاتنا ماعدا الذهاب والإياب لمحاضراتهم التقليدية.

لنتحدث عن حياة جامعية حقيقية يحقق من خلالها الطلبة والطالبات ليس فقط تحصيلا علميا في مجال تخصصاتهم بل يتشكلون فكريا ويجدون في نشاطات الجامعة التي ينتمون إليها مخرجا لأفكارهم ومثالياتهم ورؤاهم النقدية عبر تجمعات وأندية وأنشطة لا تسيطر عليها إدارات الجامعات ولا تتدخل فيها وزارات الأمن بالمنع والقبول أو الرفض أو المتابعة لذوي النشاط.

أود هنا أن أورد نصا جميلا قد يساعد على مقاربة ما أقصد حول طبيعة الثراء الذي يجب أن تحفل به الحياة الجامعية للطالب حتى تحقق أهدافها ليس فقط بالنسبة للمجتمع وإنما بالنسبة للطلاب كأفراد ومفكرين ومؤثرين في حركة التغيير الاجتماعي التي يطمح الشباب دائما أن يكونوا جزءا منها. والنص مأخوذ من كتاب دكتور جمال أمين خلال سرده لسيرته الذاتية في كتابه المشوق: (ماذا علمتني الحياة) فهو يتحدث في ص 135 وما قبلها عن انضمامه خلال سنوات عمره الأولى إلى حزب سياسي وهو حزب البعث السوري الذي أصبح جلال أمين المسؤول الأول عنه بعد ذلك بسنوات في مصر ثم ترك الحزب إلى الأبد بعد تخرجه من الجامعة والتحاقه بالبعثة في انجلترا للحصول على الدكتوراه وهو يقول:

(كانت هذه أول تجربة لي وآخر تجربة أيضا في الانضمام إلى حزب سياسي وهي تجربة تكاد تكون صبيانية أكثر منها تجربة جادة في العمل السياسي إذ لم أكن بلغت العشرين عندما انضممت لحزب البعث وتركته وأنا في الثالثة والعشرين.. والراجح أن السبب الأساسي لدخولي في هذه التجربة كان سببا اجتماعيا ونفسيا أكثر من أي شيء آخر وأقصد بالسبب (الاجتماعي والنفسي) الميل الطبيعي في مثل سني إلى الاشتراك في عمل جماعي مع شباب في نفس السن يعبر فيها كل منا عن شخصيته التي بدأت في التكون ويأمل كل منا أن يحصل من خلاله من الآخرين على قدر من المودة والتقدير يدعم ثقته بنفسه).

هذا يعني أن طلاب الجامعة وفي مرحلتهم العمرية محتاجون إلى أن يكونوا نشطاء فكريا واجتماعيا وسياسيا ويحتاجون إلى أن يجدوا أهدافا سامية يدافعون عنها بحرارة لكن هذا لا يعني بالضرورة أن يكونوا مسيسين إلى الأبد. جلال أمين كان أمينا لحزب البعث في مصر كما ذكر لكنه أيضا يؤكد أنه كان وكما يراه اليوم مجرد تجربة صبيانية خرج منها سالما.. لكن هذا ليس حال كل النشطاء من الطلاب الجامعيين في عالمنا لعربي.

الكثير من الطلبة المتابعون والقارئون ومن يحملون هموما اجتماعية وثقافية وإنسانية يتم تصنيفهم من قبل إدارات الجامعات ومن قبل أجهزة الأمن في بلدانهم على أنهم خطرون وهو ما يعيق حياة الناشط لاحقا فيقف عقبة في طريق صعوده السلم الوظيفي أو العلمي أو قد يلقي به في غياهب السجون لممارسات (ربما تكون متطرفة في بعضها) لكنها مرتبطة بمرحلة عمرية تستدعي هذا النشاط بل هي جزء من الحراك الاجتماعي والثقافي الذي يساعد على تصحيح مسارات الأجيال السابقة ولا يجب أن يعاقب الشاب أو الشابة بقية عمره لأنه كان نشيطا أيام الجامعة.. بل ما يفرضه الواقع اليوم هو ضرورة أن تتنحى الجامعات تماما عن النشاطات الطلابية وأن يبدأ الطلبة في تعلم اللعبة الديمقراطية بأنفسهم من خلال نقاباتهم وأنديتهم وتجمعاتهم طالما تتبع طرقا سلمية للتعبير عن وجهات نظرها التي قد تكون صادمة لبعض الفئات الاجتماعية في وقتها لكنها جزءا من المسار الطبيعي لشباب يستجيبون لمتطلبات عصره.

وموضع آخر من الكتاب يتحدث جلال أمين مقارنا بين خبرته الفقيرة تماما بمفهوم الحياة الجامعية في حياته حين كان طالبا في كلية الحقوق بجامعة القاهرة وبين الثراء المدهش الذي لم يعرف أنه كان يفتقده إلا حين عاش التجربة الثرية للحياة الجامعية كما ينبغي لها أن تكون في كلية لندن الشهيرة للاقتصاد (سكول أوف ايكنميكس). يقول:

(في كل يوم يوضع في مدخل المدرسة جدول محاضرات به بيان بكل ما سيلقى خلال اليوم من محاضرات دون تمييز بين مقررات السنة الأولي ومقررات السنة الثانية الخ فالمهم هو موضوع المحاضرة وشخصية ملقيها ولك الحق في الاختيار من بينها كما تشاء وعلى الخرائط في كل دور من الأدوار الستة لمبنى الكلية لوحات إخبارية لا نهاية لها تخبرك عما تقوم به الجمعيات المختلفة من نشاط، جمعية للمحافظين وجمعية للعمال وثالثة للاشتراكيين، وواحدة للجمعية المسيحية, أخرى للبوذية وواحدة للجمعية التي كونها طلاب أمريكا اللاتينية تخبرك بمحاضرة عن الحالة الاقتصادية للبرازيل وأخرى للجمعية المسرحية تخبرك بأن مخرجا مسرحيا شهيرا سيأتي إلى المدرسة ليتكلم عن تتشيكوف. ويكمل جلال أمين في ظرف بين قائلا: كانت كلية الحقوق بجامعة القاهرة بريئة من كل هذا ولكننا لم ندر شيئا عما كان ينقصنا.)!!!

نعم.. لدينا في الجامعات الكثير من الأنشطة التي تسخر لها موارد كثيرة لكن لا أحد يحضرها لأنها لا تمثل الطلبة أنفسهم وإنما تعبر عن رغبات القيادات الرسمية التي تحرص على أن يكون كل شيء مدروسا ومنسقا حتى لا (تحدث بلبلة غير محسوبة العواقب) بحيث غدت الحياة الجامعية لطلابنا فقيرة وضعيفة في التشكيل وهم لا يكادون يدخلون أبواب الجامعة لحضور محاضراتهم حتى يبحثوا عن وسيلة للهرب منها والعودة إلى منازلهم فالجامعة لا تمثلهم لكن أبواب التويتر والفيس بوك هو من يفعل ذلك اليوم.