تأليف: الأستاذ الدكتور بكري شيخ أمين
قراءة: حنان بنت عبدالعزيز آل سيف (بنت الأعشى)
القرآن الكريم هو كلام الله تعالى المعجز، حيث عجزت قريش أن تأتي بآية واحدة مثله أو على منواله، وهو معجز في كل شيء في ألفاظه ومعانيه وسياقه وتفصيله وفي كل حرف منه.
ومهما تعددت الدراسات والأبحاث والمناهج فهي تصب في قالب واحد، يقول: إنه كلام الله المعجز له رونق وجمال وحلاوة وطلاوة يقف البليغ أمامها عاجزاً، ويصمت الناقد أمامها مندهشاً حائراً، ومنذ قرون عدة والكتب في إعجازه وبلاغته وفصاحته تؤلف وتدرس، وكل كاتب يسهر في دراسته وهدفه على ليلاه، وأمامي كتاب (التعبير الفني في القرآن الكريم) وهو كتاب له ثقل ووزن، حيث تبلغ عدد صفحاته 318 صفحة وقد طبع ست مرات، وأنا أقرأ في الطبعة السادسة منه، ونشكر دار العلم للملايين أن بادرت إلى طباعته ونشره، وهو في الصميم البلاغي والأدبي عند د. بكري شيخ أمين -حفظه الله تعالى- وما هيته ومنهجيته العلمية تتضح في قول المؤلف: (ودراستنا للقرآن الكريم لن توجه على أنه كتاب تشريعي ولا على أنه أصل ديني، بل على كونه كتاباً يقف في قمة البلاغة العربية، وأسلوباً عجز الفصحاء على أن يأتوا بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، وسنحاول قدر الطاقة وجهد المستطاع أن نبين خصائص الأسلوب القرآني، ونجلو شيئاً من سماته ومزاياه، حيث نتحدث عن تعريفه وكيفية وحيه، وأوله وآخره وتنجيمه وجمعه، وعلومه، ومكيه ومدنيه، ومحكمه ومتشابهه وأحرفه وقراءاته، ورسمه وما إلى ذلك.. ونستعرض الألوان المختلفة لتفسيره، والاتجاهات التي اتجه إليها المفسرون في تفسيره، ونستعرض كذلك الدراسات المختلفة لإعجازه وآراء العلماء في هذا الإعجاز، ذلك كله في رأينا الميسر أو المعبر لفرضنا الأصيل، ألا وهو الوصول إلى سر الجمال الفني في هذا القرآن).. إذاً من خلال حديث المؤلف السابق نستشف أن هذا الكتاب يهدف إلى البحث والتأمل في سر الجمال الفني والبلاغي والأدبي في القرآن العظيم، كذلك عمد المؤلف إلى ناحية هامة جداً وهي دراسة الأمثال القرآنية ثم ابتعادها ومفارقتها للأمثال العربية، وأوضح أن معنى لفظ (قرآن) مرادف لمعنى القراءة، والسبب في هذا هو على حد قول المؤلف التالي: (إن «قرأ» تأتي بمعنى «جمع» والقراءة وقرآناً.. قال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} أي قراءته).
ومن هذا المنطلق تعددت أسماء كتابه فمنها القرآن، والفرقان، والكتاب والذكر والتنزيل، فالقرآن الكريم هو الفرقان، وذلك مأخوذ من قوله الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً}. والكتاب لفظه مأخوذة من قوله جل في علاه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ}، أما كلمة ومسمى الذكر فقد أنسابت علينا عذبة شيقة من قول رب العالمين: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، وأخيراً تسمية التنزيل منسلة من قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. أما أوصافه فهي جمة عدة فهو نور وهدى ورحمة وشفاء وكريم ومبين وموعظة ومبارك وبشير ونذير إلى غيرها من أوصاف يحتر الرجل الفطن. هذا ويتطرق الكتاب إلى ناحية هامة جداً وهي أنواع الوحي الذي كان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم، يقول المؤلف حفظه الله تعالى حول هذا الموضوع ما يلي: (الوحي.. هو الإدراك الضمني لأمر من الأمور دون أن يذكر صراحة في كلام واضح أنه بتعبير آخر الإلهام، والفهم والاستنتاج.
والوحي في هذه الأمثلة عام مشترك بين الناس جميعاً، يختلف باختلاف مداركهم، وملكاتهم العقلية، وثقافاتهم وأعمالهم، وأوضاعهم)، ثم يسترسل في إيضاح المعنى بشكل أقوى، وطريقة أخرى فيقول: (وهناك نوع آخر من الوحي وهو خطاب الله أنبياءه ورسله، أولئك النفر الذين هيئوا تهيئة خاصة، وربوا تربية معينة ليستطيعوا قيادة الأمم والشعوب والآلاف أو الملايين من بني الإنسان، فلا غرابة إذن أن تكون القوى المدركة، والعاقلة ووسائل التلقي عندهم أقوى من وسائل الناس العاديين. لقد خاطب الله رسله جميعاً، وأوحى إليهم، وكلهم لم يستثن من ذلك أحداً. وطبيعي ذلك الخطاب أو ذلك الوحي، لأنه الوسيلة الأولى والأساسية لتعليمهم أولاً، وإرشادهم ثانياً إلى تبليغ الناس رسالة الله وهداه).
ومن خلال حديث المؤلف السابق نستنتج من سير الأنبياء كون أغلبهم رعاة، وفي هذا تدبير للمهمة الصعبة وهي رعاية الدواب وتنظيم سيرها وكيفية التعامل معها، ولعل أقوى مثل يضرب لهذا هو رعاية النبي صلى الله عليه وسلم لدواب عمه أبي طالب، وقد أفاض الباحثون، ودقق الدارسون حول هذه النقطة كثيراً، وكتب سيرة صلى الله عليه وسلم خير شاهد على قولي هذا.
وفي الكتاب حديث وفيّ عن أسباب نزول الوحي على محمد صلى الله عليه وسلم وهو بين أصحابه فيقول المؤلف الفاضل: (وقد يسأل سائل: ما بال الوحي ينزل على محمد وهو في ملأ من أصحابه، فلا يرى الملك أحدهم منهم سواه؟ ونجيب أنه ليس من شرط وجود الموجودات أن ترى بالأبصار، لأن قوة الإبصار عندنا محدودة بحد معين، وإلا لاقتضى أن يكون الشيء معدوماً إذا ابتعد عن العصر بعداً صنع من رؤيته، وأن من اليسير على الله وهو خالق العين وبصرها أن يزيد في قوة ما شاء منها. فترى ما لا تراه العيون الأخرى. ألم ندرس في الفيزياء أن النور مركب من ألوان وأن يعض الألوان لا تراها كل العيون؟ وأن هناك إشاعات ضوئية دون الضوء الأحمر، ومن الأشعة البنفسجية لاتراها عيوننا، ولا شيء يثبت أنها كذلك بالنسبة إلى جميع العيون؟ أوليس هناك عيون أقل أو أكثر حساسية من عيون أخرى؟.. إذن، فما المانع أن يرى محمد الملك ويفهم ما يتكلم به، ولا يراه الآخرون، أو يدركون ماذا تعني تلك الهيئة أو الدوي؟) ثم يكمل المؤلف حديثه المنطقي بقوله: (هناك شيء لو ادعى محمد ذلك ادعاء، وافتراه افتراء لكان يجب أن يكون أسلوب القرآن كأسلوب الحديث، فالأسلوب هو الرجل في كل ظروفه وحالاته، ودراسه أسلوب القرآن تدل على أن هذا الأسلوب غير ذلك، إن قائل هذا ليس ذاك أبداً، لقد كان محمد يرسل ألفاظ الحديث إرسالاً مكتفياً بأنه يستودعه ذاكرة أصحابه، على حين كان يأمر بتسجيل كل ما يوحى إليه من آي القرآن، ويظل يكرره ويعيده خوفاً من أن ينساه فلا يذكره، وكان محمد يسأل عن كثير من الأمور فلا يجيب عنها، وربما مر على إمساكه عنها زمناً طويلاً، حتى إذا نزلت آية من القرآن في شأن ذلك السؤال، طلب من السائل وتلا عليه ما نزل من القرآن في شأنه، وربما تصرف هو نفسه في بعض الأمور على نحو معين، فتنزل آيات من القرآن تصرفه عن ذلك الوجه، بل ربما انطوت على شيء واضح من العتب واللوم).
والكتاب متسع لا يترك صغيرة وكبيرة في مفهوم الوحي إلا أتى عليها، ولا يعرج على شاردة أو واردة إلا طرقها، والكتاب يتناول مباحث قد تغفل على بعض الناس من ذلك موقف المستشرقين من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فهم على حد قول المؤلف: (انقسموا إلى فريقين: فريق مخلص للحقيقة، متجرد للعلم، مؤثر للحق، محب للانصاف، قال بما قاله المسلمون، ودافع عن نبوة محمد وصدقه، وأثبت حقيقة الوحي الإلهي، وربطها بوحي الله إلى أنبيائه الآخرين صلوات الله عليهم. وفريق آخر أعماه التعصب، وسد عليه مسالك الحق، فركب شيطانه، وراح يقذف ما تتمخض به نفسه من أرجاس وقاذورات).. ثم أتبع المؤلف قوله السالف بشيء من هذه أقوال هؤلاء الحاقدين، ليبرر على صدق قوله، وتحقق مقصده، فجاءت هذه الأقوال كمشكاة فيها نور، تقنع الحائر، وتأخذ بلب العاقل، ويعقب على ما جاء به بقوله (وبرهاناً على ما نعم به هذا الفريق الحاقد نورد نبذاً من أقوال أولئك النفر الذين أعماهم الحقد.. إن إيراد هذه الأمثلة وحدها لدليل صدق على ما نعتهم به).
وأشار المؤلف وأفاض في التطرق لأقوال الحاقدين على الدين، والكارهين لملة محمد صلى الله عليه وسلم: كما جاء في موسوعة (لاروس) الفرنسية، وكذلك سيرة ما هو فيه ويقصد بهذه اللفظة محمداً صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء المستشرق إميل در قنغيم الذي راعه ما وصف به إخوانه محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم السلام، فأخذ يرد عليهم ردوداً قوية كما أنه عمد إلى تفنيد مزاعهمهم، وأقوالهم، وما هدفوا إليه من خلال هذه المزاعم، والضلالات، ولو لا شعور هؤلاء المتطفلين من المستشرقين بعظمة القرآن وإعجازه فهو معجز في لغته وأسلوبه وبيانه وتبيانه وبكل حرف فيه، ما رفعوا رؤوسهم إليه، وما أظهروا مشاعر الكراهية والامتعاض نحوه، لكنهم في حقائق ضمائرهم كشر كما قل أهل الشرك من طواغيت قريش، وأخذوا يتلفتون يمنة ويسرة وما هنالك من مجيب، وهنا ظهرت حقائقهم، ونياتهم مهما حاول مستشرق من هؤلاء المستشرقين أن يمس جانباً منه، عبس له ذلك الجانب وأظهر ضعفه، فقد أعجز من هم أقدر وأفصح منه وهم المشركون من قريش وغيرها.
فالقرآن الكريم احتضن البلاغة العربية، ولم شتاتها، وطور أساليبها، وعدد طرقها، فمن نظر إليه بحق وإنصاف سواء من هؤلاء المستشرقين أو ما عداهم، يعرف أنه نازل من السماء، وأن القدرة البيانية اللسانية العربية بينها وبينه بحور وأنهار وأنه آت من الله جل في علاه، والمستشرقون من أمثال السابقين أو الباحثين المحدثين يدركون تمام الإدراك القوة القرآنية الخارقة والتي من المستحيل مطاولتها، في تخطي الإشعاعات النفسية والأقنعة الذاتية، وقد تم حديثاً الوصول إلى حقيقة علمية مثبتة تدرك أن سماع القرآن الكريم يرفع من نسبة المناعة في جسم الإنسان، وهذه فريدة من فرائده، بل قبل ما هو أعظم من هذا وهو أنهم في بعض مصحاتهم يسمعون الأطفال المرضى القرآن الكريم بكثرة.
فالقرآن الكريم يعلم المستشرقون تمام العلم أنه محتضن البلاغة العربية، وعكس هذه الحقيقة باطل وقول لا يؤخذ به. ويفصّل المؤلف هذه النقطة تفصيلاً دقيقاً، ويقف عندها وقفة الغيور على دينه، والمحب لقول ربه تعالى في علاه، بل يفضح اهدافهم، ويظهر سوء نياتهم.