«مايجب أن يقال»
الحائز على جائزة نوبل للآداب ذوالثلاثة والثمانين عاما الأديب الألماني جونتر جراس يعتبر الأشهر بين الأدباء الألمان الأحياء ورمز عالمي في الفكر الإنساني. جونتر جراس العجوز ظل طيلة حياته الأدبية يدور داخل الإطار الغربي الذي يقمع أي خروج على أدبيات المحرقة (الهولوكوست)، وإلا فتهمة معاداة السامية تنتظره عند باب بيته، بما يترتب عليها من انفضاض المؤيدين وتقويض الصورة والتنقيب في الماضي الشخصي السحيق حتى أيام المراهقة وإحكام السياج الإعلامي.
في صباح يوم الأربعاء 5-4-2012م أخرج جونتر جراس رأسه قليلا من الإطار المقنن ونشر قصيدة جديدة في ثلاث من كبريات الصحف الغربية، وتعذر النشر في الصحف الأمريكية. قامت الدنيا على جراس وحصل المتوقع فتضافرت عليه جهود الحاخامات والسياسيين والأدباء والصحافيين فلم يبق فيه ريشة إلا ونتفوها، وقفزوا بالكامل فوق ستين عاما من تاريخه الأدبي المدافع عن اليهود والدولة الصهيونية. قرأت قصيدة جونتر جراس في اليوم الذي نشرت فيه بالألمانية وترجمتها في نفس الليلة بمجهودي المتواضع إلى العربية، وعنوانها «ما يجب أن يقال». أظنها سوف تكون آخر قصيدة وربما آخر كلمة يكتبها جونتر جراس، وربما يصبح قريبا الحائز على جائزة نوبل سابقا فقد تسحب منه، فقط لأنه استجاب أخيراً وبعد صمت طويل لوخزات الضمير قبل المغادرة، وخرج عن المضمار المرسوم له ولغيره.
ما يجب أن يقال لماذا أصمت وأتكتم أطول من اللازم على ما هو واضح وما يتم التدريب عليه على المخططات مخططات نكون في نهايتها.. إن بقينا أحياء.. مجرد ملاحظات هامشية.
إنه الحق المزعوم في الضربة الاستباقية الموجهة إلى ذلك الشعب الإيراني المحكوم بثرثار يتظاهر بالبطولة والموجه رغم إرادته للهتاف القسري المنظم لكي يمكن محوه من الوجود بناء على مجرد الشك أن بإمكانه صناعة قنبلة نووية.
إذاً: لماذا أحرم على نفسي أن أسمي ذلك البلد الآخر بالإسم ؟! ذلك البلد الذي ومنذ سنوات وتحت غطاء السرية التامة يمتلك مخزونا نوويا متناميا، لكنه خارج نطاق السيطرة؛ لأنه خارج إمكانيات التفتيش؟.
هذا الصمت المطبق حول هذه الحقيقة، والذي من ضمنه صمتي أيضا بدأت أشعر به ككذبة تديننا، وكضغط قسري يلوح لنا بالعقاب لمجرد تجاهله.. إنه عقاب تهمة معاداة السامية الجاهز، ولكن الآن.. لأن وطني الذي يتحمل أوزار جرائم قديمة ليس لها مثيل، ومرة بعد مرة يتم جره إلى المساءلة، ومراراً أخرى لأسباب اقتصادية، ولو طلب ذلك بكلمات معسولة.. على أنه تكفير عن الذنوب؛ لأن من وطني هذا سوف تسلم غواصة أخرى إلى إسرائيل ، والتي من ميزاتها توجيه قذائف شاملة التدمير تستطيع إرسالها إلى هناك، وحيث إنه لم يبرهن ولو على وجود قنبلة نووية واحدة هناك..
ولكن مجرد الخوف منها يقدم لنا كبرهان؛ لذلك أقول ما يجب أن يقال.
لماذا صمتُّ حتى الآن ؟
لأنني أقنعت نفسي أن جنسيتي التي يتلبسها عار لا يمكن مسحه.. كانت تمنعني من قول هذه الحقيقة إلى شعب إسرائيل التي أحس بالمسئولية تجاهها، وسوف أستمر في ذلك.
لماذا فقط الآن أتكلم .. وقد هرمت .. وبآخر نقطة حبر.. أن إسرائيل النووية تهدد ذلك السلام العالمي الهش من الأساس؟
لأنه يجب الآن أن يقال ما قد يصبح متأخرا جدا في اليوم التالي، وأيضا لأننا كألمان مدانون بما فيه الكفاية، نصبح مشاركين فيما قد يصبح جريمة يمكن توقعها؛ مما يجعل مشاركتنا في الجريمة غير قابلة للإزالة بأي طريقة ممكنة.
والآن أعلن: لن أصمت بعد اليوم .. لأنني سئمت من النفاق الغربي ، كما أنه يحدوني الأمل في أن يحرر الكثيرون أنفسهم من الصمت، وأن يطلبوا من المتسبب في الخطر القادم، ويصروا، على أن رقابة مشددة ودائمة على المخزون النووي الإسرائيلي، وعلى المواقع النووية الإيرانية من خلال سلطة عالمية تقبلها حكومات البلدين..
بهذه الطريقة فقط يمكن مد اليد إلى الإسرائيليين والفلسطينيين وإلى كل البشرية في تلك البقعة من الأرض المسكونة بالجنون.. حيث يتساكن الأعداء كتفا إلى كتف..
وفي نهاية المطاف يتم مد يد الإنقاذ إلينا جميعا.
جونتر جراس