لن أتوقّف عند جدلية مناسبة، أو عدم مناسبة تدريس اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية، أو حتى محاولة تفنيد الآراء المناهضة لهذا التوجُّه، وإنما سأتجاوز ذلك للتعرُّض ومناقشة بعض من الحقائق والأطروحات
العلمية التي ربما غابت عن بعض من يقف موقف المعارض المستميت في معارضته لتدريس اللغة الأجنبية في سن مبكرة، والتي بدأها غربياً مايكل ويست (Michael West)، وعربياً مدير اليونسكو في بيروت خلال الخمسينات الميلادية عبد العزيز القوصي.
وأولى هذه الحقائق العلمية المنهج، أو البرنامج التعليمي اللغوي الذي يتم من خلاله تعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة التعليمية العمرية المبكرة وأولها تعليم اللغة الثنائي (Bilingual Education) والذي يتعلّم فيه الطالب لغتين في نفس الوقت بحيث يُدرّس مهارات اللغة الإنجليزية بالإنجليزية ـ بينما يتم تدريسه المواد الأخرى بلغته الأم ومع تطوُّر لغته الإنجليزية يتم التقليل تدرجياً من تدريسه تلك المواد بلغته الأم حتى ينتهي به المطاف بالدراسة كلياً باللغة الإنجليزية على حساب لغته الأم في العملية التعليمية. وثانيها برنامـج تعليم اللغة بالغمر، أو برنامج الانغماس اللغوي ( Immersion Education)، حيث يتم تعليم الطفل المقررات الدراسية باللغة الإنجليزية منذ البداية مع إهمال لغته الأولى كليةً، ويستدعي ذلك أيضاً ممارسة كل الأنشطة داخل وخارج الفصل استخدام اللغة الإنجليزية بصفتها لغة تعلُّم وتواصل داخل أسوار المدرسة. وثالثها يتمثّل في اتباع برامج تعليم اللغة الثانية (Second Language Education). وهنا يتعلّم الأطفال لغتهم الأولى ثم يلتحقون في جزء من يومهم الدراسي ببرامج تعليم اللغة الإنجليزية.
والآراء التي تستقي معارضتها لتعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية تتكئ في معظمها على نتائج الدراسات والآراء العلمية التي أشارت إلى وجود تأثير سلبي، جرّاء تعليم اللغة الإنجليزية لطلاب هذه المرحلة التعليمية، بعد تني أي من هذه البرامج التعليمية اللغوية الآنفة الذِّكر، وبخاصة المتولّدة من المشاكل الناتجة عن الأخذ ببرامج تعليم اللغة الإنجليزية الثنائي (Bilingualism). والذي غايته تحقق إتقان اللغتين الأم واللغة الأجنبية بنفس القدر من الكفاءة والقدرة، والتي برز فيها بشكل لافت الأثر السلبي على اللغة الأم.
ونمط التعليم اللغوي الذي يدرس على ضوئه طلابنا في السعودية تحديداً، وفي عالمنا العربي إجمالاً، يمكن الاصطلاح عليه ببرنامج تعليم اللغة الإنجليزية بصفتها لغة أجنبية ( English as a foreign language ) والذي يدرس فيه الطالب - الطالبة اللغة الإنجليزية من خلال عدد محدود من الحصص المقتطّعة من الجدول الأسبوعي داخل أسوار المدرسة، أو بالأحرى ضمن فصول تعليم اللغة الإنجليزية، بينما اللغة العربية هي السائدة داخل وخارج المدرسة مما جعل هذه الوضعية التعليمية اللغوية توسم ببيئة اكتساب لغوية فقيرة (acquisition poor environment). غير ذات جدوى وتأثير كبير - كما وصفها بذلك كراشن ((Krashen عام 1985 - لتعلم اللغة الأجنبية، فضلاً عن تأثيرها المحدود على اللغة الأم.
والبعد الآخر الغائب، أو المتناسى نجده ماثلاً في إغفال الدور الذي تلعبه الفترة الحرجة من عمر الإنسان ما بين ست إلى أربع عشرة سنة حسب رأي البعض (Critical Period Hypothesis ). وهذه الفرضية قال بوجودها العالم اللغوي إيرك لينبيرج ( Eric Lenneberg) في عام 1964، وهي فترة فيزيولوجية محددة من النمو في حياة الإنسان يكون حينها اكتساب اللغة أكثر سهولة وفعالية، وبتخطّي هذه الفترة يكون تعلم اللغة الأجنبية أكثر صعوبة، وبشكل أكثر دقة تبدأ بعدها مقدرته على تعلم اللغة الأجنبية بالأفول، بحيث يكون حينها من الصعوبة بمكان تعلُّمها على أكمل وجه؛ وذلك يعود إلى الاعتبارات العصبية (Neurological Consideration) فمرونة المخ وطواعيته، وقدرة الجهاز اللغوي وكفاءته، وتقبُّله لعناصر وخصائص لغوية أخرى تبدأ بالاضمحلال والضعف مع تجاوز هذه الفترة العمرية الأمر الذي يقل معه تحقيق نجاح ملحوظ في تعلم اللغة الأجنبية. ويدعم هذه النظرية أيضاً نظرية العصبية الفسيولوجية التي طرحها بنفيلد وروبرتس ( Penfield and Roberts) في عام 1959 والتي حددت السنوات العشر الأولى كفترة زمنية معزّزة لفرص نجاح تعلُّم اللغة الأجنبية لتوافق هذه الفترة الزمنية العمرية مع متطلّبات فسيولوجيا الدماغ الإنساني.
والحقيقة الأخرى ذات مساس بالتأثير اللغوي على اللغة الأم جراء إقرار تدريس اللغة الإنجليزية في سن مبكرة في المرحلة الابتدائية والذي يمكن أن ينظر له من خلال النظريتين، أو المنظورين اللذين طرحهما جم كمنز ( Jim Cummins) في عام 2005 والمتمثلين في نظرية العتبة اللغوية (Threshold Hypothesis)، ونظرية الترابط المتنامي (Developmental Interdependence Hypothesis). التأثير السلبي ينتج عند تعليم الطفل للغة أجنبية قبل تجاوزه لعتبة إتقانه للغة الأم في سنواته الثلاث الأول؛ لأنه عند بلوغه السنة الرابعة تكتمل المقدرة التراكبية اللغوية لديه، وفي الخامسة تكتمل قدرته المعجمية والتي تبلغ حسب بعض الدراسات حوالي أربعة عشر ألف كلمة، كما أن عضلات اللسان والحبال الصوتية قد تكامل نموها في هذه المرحلة العمرية. والأمر الثاني الذي يظهر محدودة التأثير السلبي لتعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية العلاقة المطردة بين إتقان اللغة الأم واللغة الأجنبية، بحيث إن إتقان اللغة الأم يساعد في إتقان اللغة الأجنبية وفي الوقت نفسه نجد أنّ إتقان اللغة الأجنبية يؤدي إلى تطور ملحوظ في مستوى اللغة الأم وهو ما عبّر عنه كمنز بالثنائية اللغوية المتزايدة ( additive bilingualism) بحيث إنّ كلاً من اللغتين تدعم إحداهما الأخرى، وأن اللغة الأجنبية المتعلمة هي لغة أخرى مضافة للغة الأم وليست في مقام إقصائها؛ لأنّ اللغة الأم بهذه المرحلة العمرية أوجدت نظاماً لغوياً يمكن أن يضاف إليه نظام لغوي آخر جديد وهو ليس بمعول هدم للنظام اللغوي الأم، وإنما يقويه ويدعمه. وهذا بعكس ما أسماه أيضاً بالثنائية المتناقصة ( subtractive bilingualism) وذلك حين يتعلم الطفل اللغة الأجنبية قبل تجاوزه مرحلة العتبة التي تسبق التحاقه بالمرحلة الابتدائية، أو قبل أن يكتمل نموه اللغوي وحينئذ تكون اللغة الثانية بمثابة مقصلة للغة الأم.
وهذا ما دعمته عدد من الدراسات الحديثة التي أشارت نتائج بعض منها أن القدرة اللغوية في مهارة لغوية في اللغة الأم يساعد على إتقان نفس المهارة في اللغة الأجنبية. ويؤكد ذلك أيضاً المزايا المعرفية والإدراكية المتحصلة من تعلم اللغة الأجنبية في سن مبكرة، كما أشار إلى ذلك أبوت (Abbott) في عام 2007 والتي منها على سبيل المثال لا الحصر أن تعلم اللغة في مرحلة مبكرة تمنح المتعلم قدرة أكثر على الإبداع، ومعرفة واطلاع على ثقافة أخرى، وفهماً ومعرفة أكبر للغته الأم، وتعزيز القدرات الإدراكية ومستوى توسع الذكاء لديهم، كما أن متعلمي اللغات الأجنبية في سن مبكرة يظهرون قدراً أكبر لتطور قدراتهم الذهنية، وهم بشكل عام يحققون مستوى أو أداء أكاديمياً أفضل من أقرانهم الذين لا يتاح لهم فرصة تعلم لغة أجنبية، وبخاصة في مهارات القراءة، والكتابة، وقواعد اللغة، بل وحتى في الرياضيات.
هذه جملة من الحقائق العلمية تظهر أن تعليم اللغة الإنجليزية في المرحلة الابتدائية ليس له ذلك التأثير اللغوي السلبي المخيف المعيق لتعلم الطفل للغة العربية واكتساب مهاراتها، بل إنه على العكس من ذلك أجدى وأنفع وأكثر تأثيراً.
alseghayer@yahoo.com