شعرت بقدر كبير من الاطمئنان وأنا أقرأ كلمة سمو الأمير سعود بن عبد المحسن أمير منطقة حائل في حفل جائزة الأمير محمد بن فهد للتفوق العلمي الـ24 الذي كان الأمير سعود بن عبد المحسن ضيف شرف له ومُتحدثاً رئيساً فيه.
الكلمة كانت تتحدث عن التعليم برؤية ناقدة وصريحة ومتزنة، فكما يقولون: تشخيص المرض نصف العلاج؛ وسموه بهذا الفكر النيّر، والرؤية العميقة، واللغة الراقية، يبعث فينا الكثير من الاطمئنان على مستقبل هذه البلاد.
نعم.. التعليم هو ليس فقط حجر الزاوية بالنسبة لدولة اليوم المعاصرة، وإنما أساس البنيان ومتكؤه؛ وإذا كانت التنمية بمثابة شرط الضرورة لبقاء الدول واستمرارها في هذا العصر، فإن التعليم (تحديداً) هو أس التنمية الأول الذي يُشعلُ جذوة الحضارة والتقدم، وبالتالي يُجذّر الاستقرار والبقاء؛ وعندما (يتخلّف) التعليم فإنه سيجتذب معه حتماً البلد بأكملها فتتخلف وتضطرب أوضاعها، ويكتنف مستقبلها الكثير من العُتمة؛ هذا ما يقوله التاريخ القريب في أكثر من حالة؛ فقط تلفّت حولك تر هذه الحقيقة أوضح من الشمس في رابعة النهار.
يقول سموه في كلمته: (إنني أرى كما يرى كثيرون أن حجم المدخلات في هذا القطاع مادياً ولوجستياً لا تتناسب أبداً مع حجم مخرجاته؛ فعلى الرغم من الإنفاق السخي من قِبل الدولة على هذا القطاع، وعلى الرغم من توفر الإرادة الصادقة لتصويب مساراته، إلا أن تعليمنا لا يزال يرتهن للأداء التقليدي الذي حوّل مدار مدارسنا إلى قاعاتٍ يملؤها السأم والملل والضجر، يُجرجر أطفالُنا أقدامهم إليها كل صباح بكل تثاقل منتظرين قرع جرس الانصراف على أحر من الجمر؛ تماماً كما يريد من يفر من معتقل)! وهو هنا يُشخّص الداء، ويصف الأعراض، بمنتهى الدقة والبلاغة.
كوريا الجنوبية - مثلاً - كانت في بدايات الستينات من القرن المنصرم تعتبر ثالث (أفقر) الدول في آسيا؛ وخصوصاً أنها تفتقر إلى المواد الخام تماماً، وأغلب أرضها جبال وعرة، وسواحلها صخرية شديدة الانحدار، ومناخها قاري؛ ورغم ذلك واجهت كل هذه التحديات (الطبيعية) بالتركيز على بناء الإنسان من خلال الارتقاء بالتعليم والتدريب؛ وهذا ما تشير إليه بوضوح أرقام ميزانية الدولة، حيث يقتطع الإنفاق على التربية والتعليم ما نسبته 21% من الميزانية؛ كما يحظى المعلم في المرحلة ما قبل الجامعية بمعاملة خاصة، فتُلزم الحكومة من يرغب أن يكون معلماً بعد تخرّجه من الجامعة الالتحاق بدورتين مكثفتين للارتقاء بقدراته التربوية والتعليمية، ويمر بعدد من المقابلات والاختبارات للتأكد من أهليته لأن يكون معلماً، وفي المقابل يتقاضى (المستجد) من المعلمين راتباً لا يقل عن 2000 دولار شهرياً، ويزيد راتبه بشكل مُطَّرِد مع بقائه في سلك التعليم.
كوريا الآن بعد هذه (الثورة) التعليمية هي ثالث أقوى اقتصاد في آسيا؛ حيث تأتي في الترتيب بعد الصين واليابان، وفي بعض الجوانب الفنية والتخصصية الدقيقة تتفوق عليهما؛ كما أن نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي السنوي هو في حدود 15 ألف دولار وسوف يصل إلى 20 ألف دولار في عام 2014 حسب تقارير صندوق النقد الدولي؛ كما سجّلت (أقل) نسبة في البطالة من بين دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD)؛ فقد بلغت نسبة البطالة فيها 3.2% في يناير، وبقيت النسبة ما بين 3.1-3.3% منذ أغسطس من العام الماضي.. فالدولة التي كانت قبل ما يقرب من أربعين سنة أفقر دولة في آسيا، وأعلاها في معدلات البطالة، هي اليوم إحدى نمور العالم الأول الاقتصادي؛ ولم تحقق ذلك لأنها تمتلك ثروات طبيعية، ولكن لأنها (بَنَت) إنسانها فأغناها.
وختاماً أقول: التجربة الكورية هي التي يجب أن تكون قدوتنا في الارتقاء بالتعليم؛ فالاقتداء بهذه التجربة هو الذي سيجعلنا بالفعل نضع أقدامنا على الطريق الصحيح نحو بناء الإنسان المعاصر ذكراً كان أم أنثى؛ وكما قال غاندي: (إنني أفتح نوافذ بيتي على كل الثقافات، لكنني لا أسمح لواحدة منها أن تقتلعني من جذوري)؛ وهكذا يجب أن نكون.
إلى اللقاء.