قد لا تكون بعض الأمور متناقضة بشكل جذري، أو تنطوي على مفارقات، لكنها قد لا تكون بالضرورة منسجمة مع بعضها. وهذا - بلا شك - جزءٌ من الحياة ومن طبيعة الأمور؛ فحياة الإنسان ذاتها محفوفة بمثل هذه التناقضات، وهي تشغل حيزاً كبيراً من فكره ونشاطاته، ومنها ما يمارسه في خصوصيته وما يمارسه في العلن. لكن بعض المعادلات تكون ذات حجم وتأثير كبيرين بحيث تؤثر في مسيرة المجتمع كله حين لا يتم احتواؤها أو المواءمة بينها بشكل يضمن استمرار المجتمع في النمو والازدهار.
ومن المعادلات الصعبة التي تواجه بلادنا التوفيق بين التعليم التقليدي والتعليم العصري، التعليم الذي يعتمد على النقل وحفظ المواد والحفاظ على قيم الأجيال السابقة، والتعليم العصري الذي يقوم على التفكير الحُرّ النقدي وروح المبادرة والتجديد. وفي هذا السياق نودُّ أن ننوه بما ذكره مؤخراً سمو الأمير سعود بن عبدالمحسن بهذا الخصوص؛ فقد ذكر سموه في كلمته بوصفه ضيف شرف في حفل جائزة أمير الشرقية: “إن مناهجنا هي نتاج لصراع فكري عقيم، وإن تعليمنا لا يزال يرتهن للأداء التقليدي الذي حوَّل مدارسنا إلى قاعات طاردة يملؤها السأم والملل. بينما كان الأجدى والمرجو وجود نظام تعليمي متطور، يبني الإنسان؛ لأن الاستثمار في عقول أبنائنا هو الثراء الحقيقي”. والكاتب يرى أن سموه أصاب كبد الحقيقة؛ فما زالت مناهج مدارسنا، وخصوصاً مدارس التعليم العام، تعاني صراعاً بين تيارَيْن: تيار له توجُّه تقليدي ديني يريد ترسيخ القيم الدينية لدى النشء بالطرق القديمة التي ترى “العلم في الصغر كالنقش في الحجر”، وتعتمد أساليب التلقين والحفظ التي قد تكون مناسبة لأوقات مضت، لكنها لا تنسجم تماماً مع روح العصر وتطورات المعرفة وأدواتها الحديثة، وتيار آخر له توجُّه تعليمي حديث، يريد أن يلحق بركب العلم المتسارع في التغير والتجديد، ويقدم علوم العصر الحديث التي تكفل للإنسان العيش الكريم. وهذا انعكس بشكل مبهر على مخرجات التعليم في مجتمعنا؛ فربما تكون تركيبتنا الاجتماعية مناصفة بين المشايخ من جهة وأصحاب المهن الأخرى من جهة أخرى.
ولكن، وحتى نفهم كلام سمو الأمير فَهْماً صحيحاً، ونكون منصفين له، فهو - حسب فَهم الكاتب - يرى ضرورة مراجعة بعض مواد وأساليب التعليم في ضوء المستجدات الحديثة، وإعادة صياغة النسبة والتناسب في هذا الموضوع، ومراعاة الأمور الجديدة التي طرأت على حياة الشباب؛ حتى لا يكون تعليمنا منفراً. أي الوصول إلى حل لهذه المعادلة الصعبة التي تخترق تعليمنا العام، والتي تسبب نفور الطلاب منه، وسأمهم من بعض مواده؛ فتعليم الدين للطلاب واجب لا جدال ولا مراء فيه، وهو ضرورة لتنشئتهم في الدنيا وإعدادهم للآخرة، ولكن ترديد المواد الدينية بشكلها التقليدي بهذا الكم الهائل، وإرغام الطلاب على حفظ نصوص لا تتناسب مع أعمارهم وتطلعاتهم، وعصرهم، لا بد أن يشعراهم بالسأم والملل؛ فلو طُوِّرت مناهج الدين بشكل ممتع ومقنن ومعقول لربما استفاد منها الطلاب بشكل أكبر من المواد والنصوص المتراكمة عليهم في المناهج، فما يدرسه الطلاب اليوم من المواد هو ذاته ما يدرسه طلاب الشريعة في تخصصهم، وهذا ليس للطلاب طاقة به ولا حَوْل، وقد ينعكس سلباً على أدائهم في المواد الأخرى؛ فالتعليم القسري لا يؤدي إلى نتائج إيجابية بالضرورة.
المعادلة الصعبة الأخرى هي معادلة الاستقدام والتوظيف؛ فلا يمكن لبلد يفتح حدوده للاستقدام أن يقدم حلولاً ناجعة لمعضلة البطالة؛ فنظرياً يوجد في كل اقتصاد عدد محدود من الوظائف، فإما أن يشغلها وافدون أو يشغلها مواطنون. وما نتج من فتح باب العمالة الخارجية على مصراعيه لسنوات عديدة هو أن الاقتصاد الوطني تكيَّف مع هذا الوضع، وأصبح اقتصاداً متموضعاً حول العمالة الوافدة، وكلما تأخرت محاولة إعادة توجيه الاقتصاد السعودي إلى التوظيف المحلي أصبح الوضع أصعب. فالدول الغربية تخلصت من بعض قطاعاتها الاقتصادية التي ترتكز على اليد العاملة الكثيفة الرخيصة بتصديرها إلى دول العمالة ذاتها، ومن ذلك الصناعات التي تحتاج إلى عمالة مكثفة وتلوث البيئة؛ وذلك لأنها تدرك أن لهذه العمالة الوافدة كلفة كبيرة غير منظورة تتمثل في الضغط على موارد البلاد المختلفة، وعلى بنيتها التحتية، وعلى بيئتيها الطبيعية والاجتماعية. واتجهت الحكومات لدعم الأنشطة الاقتصادية التي تتلاءم مع اليد العاملة المحلية. فوجود أحد عشر مليون وافد يشكِّل ضغطاً خطيراً على موارد البلاد الناضبة كالماء، والنبات، والبيئة و... إلخ، كما أنه خطر اجتماعي مستقبلي محتمل؛ وعليه فعلينا مراجعة أولويات تصديرنا لبعض المنتجات التي تعتمد على العمالة الكثيفة؛ فما فائدة أن تنشئ مصنعاً للأواني المنزلية الرخيصة لتصدرها إلى الدول المجاورة؟ لكن تصدير صناعات دقيقة تعتمد على شباب سعودي مؤهل يضمن استمرارية عمل الشباب السعودي، وكذلك تخفيف الضغط على الخدمات الأخرى كالماء والكهرباء والتلوث. معادلة العمالة والبطالة هي معادلة التخطيط الاقتصادي السليم؛ فتحقيق النمو الاقتصادي بأي ثمن كان ليس معادلة ناجعة ولا سليمة.
المعادلة الثالثة هي عمل المرأة وبقاؤها في المنزل، أو الخوف عليها من الاختلاط بالرجل؛ فالمرأة بوصفها نصف المجتمع، وعنصراً أصبح تأهيله في كثير من الأحيان يفوق تأهيل الرجل، تصبح طاقة بشرية مهدرة، سواء من ناحية القدرة على العطاء أو من ناحية ما صُرف عليها من استثمار لتأهيلها إذا لم تتح لها فرصة العطاء كاملة؛ فلا يمكن الاستفادة الكاملة من المرأة في اقتصاد عصري مع منعها من الاختلاط أو قيادة السيارة التي تحتاج إليها للذهاب إلى العمل. والحل لا يكمن في المنع، لكن يكمن في المعالجة المنطقية للأمور بحيث يتأقلم المجتمع مع المعطيات الجديدة لمجتمع تتمتع فيه المرأة بقدر كبير من التأهيل والتعليم يفوق من يحاول منعها؛ فهذا المنع يفترض علاقة سببية منطقية بين قيادة المرأة للسيارة وفسادها، أو فساد المجتمع من حولها، أو في أسوأ الأمور تعرضها للمضايقة، ومنطقياً لا يمكن التأكد من ذلك إلا في حالة قيادة المرأة الفعلية للسيارة وتعرضها لمثل هذه الأمور، وهذا لم يحدث في مجتمعنا؛ لذلك فهو يبقى في دائرة التخرصات. وإذا كان لا يمكننا السماح بذلك فلا يبقى لنا إلا أن نستفيد من المجتمعات المشابهة لنا، التي مرت بتجربة مشابهة لنا، والتبصر بتجاربهم. والواضح والجلي لنا هو أن المجتمعات الخليجية المجاورة، والأقرب شبهاً بنا، وهي مجتمعات تقليدية، محافظة، ومتدينة مثلنا، سمحت للمرأة بالعمل وقيادة السيارة، ولم تظهر آثار ما نخاف منه عليها، بل إن المرأة أقل عرضة فيها للأذى منها في مجتمعنا؛ فالسِرُّ - إذاً - ليس في المنع، لكن في التوعية، والتنشئة الأخلاقية.
هذه المعادلات الصعبة الثلاث هي ما يؤطر جدلية الثبات والتحول في مجتمعنا، ولو تُركت دون مقاربة عقلية منطقية تحاول مواءمتها تدريجياً فقد تتحول - لا قدَّر الله - تدريجياً إلى تناقض أو صراع خفي يجذبنا إلى اتجاه معين على حساب الآخر؛ ما يؤدي إلى اهتزاز الانسجام المجتمعي في بلادنا. فنحن نريد شباباً محباً لدينه، يعرف حقوق الله عليه، ويعرف أمور دينه، لكنه شباب متسلح بعلوم العصر أيضاً، لا شباب سئم من التعليم وحب المعرفة، ولا يرى في التعليم إلا الشهادة فقط. ونريد مجتمعاً يجد الشاب السعودي فيه فرصته الكاملة للعمل مع تقنين وتقليل لنسبة العمالة الوافدة. وقد يكون هذا غير ممكن دون الاستفادة الكاملة من المرأة العاملة؛ لتشغل الأعمال المكتبية وتخلي للرجل ساحة العمل الميداني؛ فنحن ما زلنا في ظروف ملائمة لذلك، ظروف قد لا تكون سانحة فيما بعد.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif