من المآثر التي تسجل للحكومة، ولوزير الإعلام الأسبق جميل الحجيلان، تحضيراً قبل خمسين عاماً لافتتاح التلفزيون، خطوة متقدمة، ربما لم تتكرر مع أي مرفق تنموي حكومي أقيم قبله أوبعده - باستثناء تجربة أرامكو - هي الإعداد المتقدم والمُسبق للفنيين قبل تدشين أي مشروع، فلقد أقدمت الوزارة عام 1963م على اختيار نحو ستين شاباً من خريجي الثانوية العامة، وأوفدتهم في دفعات لمدة عام للتأهيل اللغوي وللتدريب على مختلف فنون التلفزيون وتقنياته - المعقدة نسبيّاً - في معهد الآر سي أي (.R. C. A) في نيويورك.
كان من بين هؤلاء الرواد، إبراهيم بن عبدالله النفيسة، شاب جاء مباشرة من بلدة «الخَبراء» بالقصيم، تخصص بعد عودته من تلك الدورة القصيرة في فنّ التركيب (المونتاج) السينمائي، وكان من الأعمال الموكلة إليه، تنقيح الأخبار المحلية بعد تصويرها سينمائياً، إذ لم تكن كاميرات الفيديو قد اخترعت بعدُ، كما كان من مهامه تحضير الأفلام الإخبارية القصيرة التي كانت ترد بالطائرة ثلاث مرات أسبوعيّاً من وكالتي الأنباء العالمية المصورة في لندن، ولم يكن لذلك الشاب المثابر أي تطلّعات لممارسة أعمال أخرى مُغرية للظهور الإعلامي والضوء المجتمعي، كان عمله إذ ذاك من الأعمال الممتنعة التي قد لا يرغب فيها كل شاب، لأنه يقضي جُل يومه، سبعة أيام في الأسبوع، منحني الظهر في ظلام دامس على آلة ( القص واللصق ) الفيلمية، فكان لدى زملائه، رغم انزواء مكان عمله، الأكثر قبولاً لأحكامه، وتقديراً منهم ومن رؤسائه لمكانته، على حدٍ سواء.
ثم أضاف إلى أهمية عمله، أن تبنّى فكرة أرشفة المادة الفيلمية الوثائقية، التي يحتاج إليها معدو البرامج، يرجعون إليه لاستخراج أية مادة تثري برامجهم المختلفة، فهو بذلك أول من خدم الأغراض التوثيقية والتكشيفية للعمل التلفزيوني في تلك الأعوام المبكرة.
هذا الموظف الذي أمضى سنوات خدمته في غرفة معتمة ضيقة واحدودب ظهره، وازداد بصره وهناً على وهن، دون أن يتذمر يوماً، أو أن تفارق الابتسامة محيّاه، أصيب قبل سنوات بجلطة دماغية ألزمته المنزل، وكنت قبل ذلك كتبت عنه على صفحات هذه الجريدة (العدد 1384 لعام 1995م) مقالاً استعدتُ فيه مشكلة طريفة لا تفارق الذهن وقائعها وكان الزميل النفيسة فارس الإنقاذ فيها، مفادها أن التلفزيون في عام تأسيسه توجّبت عليه تغطية حفل افتتاح طريق الحجاز الذي يمرّ بديراب برعاية الملك فيصل، فأخطأ أحد الفنيين الأجانب في تصوير الحفل على ذبذبة مغايرة لتلك المعمول بها في المحطة، مما سبب إحراجًا كبيرًا للمحطة، وكانت محطة أرامكو من حسن الصدف قد صوّرت الاحتفال، فوقع الاختيار على الزميل النفيسة، وكان إذ ذاك في الأسبوع الأول من زواجه، لاستئجار سيارة من محطة « الغرابي « للسفر في تلك الليلة إلى الظهران وإحضار الفيلم بعد تحميضه لعرضه في الليلة القابلة، ومع أن التلفزيون نجح في تجاوز الحرج بفضل الزميل الهمام الذي حفظ ماء الوجه للإدارة، إلا أن مشكلة أخرى نشأت من كون تلفزيون أرامكو لم يصوّر كلمة الشيخ عبدالله بن خميس وقصيدة الشيخ عبدالله بن لويحان، مكتفياً من الحفل بكلمة الملك ووزير المواصلات محمد عمر توفيق، فكان لاسترضاء الشاعرين إجراء آخر.
إبراهيم النفيسة، الذي تقاعد عام 1995م، بقي شمعة، إن خفتت أمس فذكرها لن ينطفئ، كان نموذجاً للشباب العصامي الوطني، الروّاد الستين أو يزيدون، ارتكز عليهم التلفزيون منذ عامه الأول، فيهم المهندس والتقني والمصور والمونتير (فني المونتاج) والمخرج، وفني الصوت والإضاءة والتحميض والفيديو والديكور، والرسام والنجار والدهان، لا يتسع المقام لتفصيل أسمائهم، صورة مضى عليها خمسة عقود، في تجربة نادرة لإعداد القوة البشرية المؤهلة مسبقاً، مكّنت التلفزيون من البدء بنسبة من الكفايات الوطنية لا تقل عن النصف، ثم زادت بتوالي البعثات، تُهدى، لكل معنيّ بتوطين الوظيفة، أو جهة نضبت بعثاتها التدريبية، ما أحوجنا اليوم لاستعادة دروسها من زمن العشق والاحتراف، الذي حمل مشعله إبراهيم النفيسة وزملاؤه.