كان مما أشير إليه في حديثي، الأسبوع الماضي، زيارتي الأولى للكويت عام 1379هـ مع وفد طلابي من جامعة الملك سعود، وإلقائي في تلك الزيارة قصيدة أمام طلبة ثانوية الشويخ، مشيراً فيها إلى عمق الصلة بين الشعبين السعودي والكويتي. وبعد ذلك باثنين وثلاثين عاماً نشرتُ كتاباً مُكوَّناً من 191 صفحة عن العلاقات بين الدولة السعودية الأولى والكويت.
وكان تأليفي ذلك الكتاب لا لأن تلك العلاقات لم تفرد بدراسة مستقلة فحسب؛ بل لأن بعض جوانبها يكتنفه الغموض، وبعض الآراء التي كتبها عدد من الباحثين عنها يحتاج إلى تدقيق وإعادة نظر. وكان مما أوردته عن بلدة الكويت في الربع الأول من القرن الثاني عشر الهجري كلام للسيد مرتضى بن علوان، الذي مَرَّ بها عام 1211هـ - 1709م؛ وهو كلام لم تكن الدراسات التي نُشِرت قبل نشري للكتاب قد أشارت إليه حسب علمي. وقد قال: “دخلنا بلداً يقال لها الكويت بالتصغير. بلد لا بأس به، تشابه الحسا إلا أنها دونها، ولكن بعمارتها وأبراجها تشابهها. وكان معنا حاج من أهل البصرة فرق عنا من هناك على درب يقال له الجهراء. ومن الكويت إلى البصرة أربعـة أيام. وفي المركب يوم واحد؛ لأن مينت (ميناء) البحر على كتف الكويت. أما الفاكهة والبطيخ وغير ذلك من اللوازم فتأتي من البصرة كل يوم في المركب لأنها اسلكة البحر.. وهذه الكويت المذكورة اسمها القُرَين. ومشينا قبل وصولنا إليها على كنار البحر ثلاثة أيام، والمراكب مسايرتنا. والمينة على حدود البلدة من غير فاصلة. وهذه البلدة يأتيها سائر الحبوب من البحر حنطة وغيرها؛ لأن أرضها لا تقبل الزراعة حتى ما فيها شيء من النخيل ولا غير شجر أصلاً. وأسعارها أرخص من الحسا لكثرة الدفع من البصرة وغيرها”. ومما ورد في خاتمة كتابي عن العلاقات المشار إليها ما يأتي:
1- أن الكويت كانت بلدة عامرة عام 1211هـ-1709م. وقد ازدادت نشاطاً وقوة مع مرور الأيام بسبب انتهاج قادتها سياسة حكيمة وطَّدت العلاقة بينهم وبين مواطنيهم.
2- أن روابط القربى والاتصال بين أهل نجد والكويتيين - وهو ما أشرت إليها في القصيدة التي أوردت شيئاً منها في الأسبوع الماضي - روابط عميقة، يدل عليها أن عرب الكويت - إلا من ندر منهم - ينتمون إلى أسر وقبائل نجدية الموطن، وأن الاتصالات التجارية والاجتماعية بين الطرفين ذات جذور راسخة. وكنت في مقالتي، الأسبوع الماضي، قد أشرت إلى موضوعات جلسات الندوة، التي عقدت في الكويت بعنوان “مفترق القرن: الثقافة العربية بين الاستشراق والاستغراب”، وإلى أسماء رؤساء تلك الجلساتن والبحوث التي أُلقيت فيها جيدة على العموم. والحديث عن الاستشراق والمستشرقين يطول، وقد تَحدَّث عن جوانب من هذا الموضوع عدد ممن شاركوا في الندوة، وكان من أولئك الدكتور عبدالهادي العجمي من قسم التاريخ في جامعة الكويت، وكان عنوان بحثه “الاستشراق والمستشرقون في ضوء نقد الرواية الإسلامية”. وقد ذكر أن الكثير من المستشرقين صَوَّبوا سهام نقدهم تجاه تراث الإسلام والتاريخ الإسلامي، وبخاصة طريق نقل المرويات، مُدَّعين أن هناك تزييفاً في تلك المرويات، بل إن منهم من بنوا على جزئيات ضعيفة نتائج كبيرة غير مقبولة. وفي طليعة أولئك جولد زيهر وشاخت. وقال إن بحثه محاولة لتأكيد بعض الحقائق التي ترسخ مبدأ سلامة النقولات التاريخية. على أن الجانب الآخر من الندوة، وهو الاستغراب، جانب في غاية الأهميّة، وإن كانت البحوث عنه أَقلَّ من تلك التي عن الاستشراق. وكان من الذين تناولوه في الندوة الأستاذ الدكتور أحمد يوسف من قسم اللغة العربية في جامعة السلطان قابوس، في بحث عنوانه “الاستغراب: أسسه ودوافعه”. وقد تناوله - كما وعد - طارحاً أسئلة طرحها بعض الدارسين، وبخاصة الدكتور حسن حنفي في كتاب “مقدمة في علم الاستغراب”. ومما قاله في ملخص بحثه: “يبدو أن ثمة وعياً لدى مَنْ يسعون إلى بناء هذا العلم بأنه ليس مُجرَّد القيام بعملية تاريخية للمعرفة الغربية تنهض على التبويب والتصنيف واستظهار جوانبها المعلنة والخفية. وإذا كانت الدراسات المقارنة قد هيمنت منذ القرن التاسع عشر الميلادي على العلوم، وبخاصة الإنسانية منها، فإن علم الاستغراب لا يبدو أنه يستطيع التحرُّر منها في مدارسة الآخر”. وكان ممن تَحدَّث عن الموضوع الأستاذ الدكتور تركي المغيض من قسم اللغة العربية في جامعة الكويت تحت عنوان “الاستغراب وأفق الحوار الحضاري”. ومما ذكره في ملخص بحثه أن “علم الاستغراب يُعَدُ استئنافاً لعلم نشأ عندما كان العرب والمسلمون في مركزاً قوياً، وكانوا حريصين على معركة الشعوب الأخرى، وبخاصة في مجال العقيدة، وكان من رواد ذلك ابن حزم والبغدادي وابن تيمية وابن قَيِّم الجوزية، وكان كتاب الاعتبار لابن منقذ يُشكِّـل نموذجاً رائعاً في دراسة الغرب”. ومما ذكره أن مصطلح الاستغراب في العصر الحديث مَرَّ بثلاث مراحل: الأولى تمثيله لمفكرين من العرب تأثَّروا بالغرب في سلوكهم وأفكارهم، والثانية دلالته على التغريب؛ إذ أصبح أولئك يعرفون بالمُتغرِّبين. والثالثة استقرار المصطلح على مفهوم الاستغراب، وتَحوُّل معناه إلى معرفة الغرب من الداخل معرفة علمية موضوعية مُوثَّقة، ودراسة ثقافته وتحليلها، وبيان مُكوِّناتها الأساسية ومنابعها الأصلية. ومما قاله في آخر ملخص بحثه: ينبغي أن لا يَظلَّ العرب مُجرَّد مُتلقِّين لما يقوله الغرب عن نفسه وعَنَّا، وأن نَفكَّ عقدة النقص التاريخية في علاقة الأنا بالآخر، وأن ندرس الغرب كما دَرَسَنا، ونقضي على مركب العظمة لديه.وكان من بحوث الندوة بحث قَدَّمه الأستاذ الدكتور أحمد مرسي من كلية الآداب بجامعة القاهرة بعنوان “الهُويَّة الثقافية وحوار الحضارات”. وقد عَرَّف فيه الهُويَّة، وأشار إلى أنها حالة تراكمية لعناصر مُتعدِّدة، في طليعتها اللغة والتجارب المتنوعة للأجيال المتعاقبة، وأنها تعبير عن كُلٍّ مُركب من حقائق تاريخيه وجغرافية وواقع اقتصادي وسياسي واجتماعي وطموحات لجماعة أو شعب أو أُمَّة، وأنها ليست أحادية الجانب، بل مُتعدِّدة الجوانب ديناميكية متطورة. ومما قاله: إن الثراء الحضاري لأِيِّ مجتمع يأتي من تَنوُّع هُويَّته وتَعدُّد مصادرها.وكان من بحوث الندوة بحث للأستاذ الدكتور سمير حسين من قسم الإعلام في جامعة الكويت، عنوانه “الثقافة العربية في مواجهة تيارات العولمة الإعلامية وتكنولوجيا الاتصال”. ومما قاله في ملخص بحثه: “إن العالم يشهد تَقدُّماً تقنياً هائلاً في وسائل الإعلام والاتصال، وتَدفُّقا إعلامياً كونياً يُعدُّ من مظاهر العولمة بحيث لم يعد في استطاعة أَيِّ نظام وطني أو إقليمي أن لا يَتأثَّر بها... وإن ذلك قد يُؤدِّي إلى العديد من الأخطار التي تحدق بالثقافة، وإلى مزيد من تَدفُّق الرسائل الثقافية التي تأتي من المراكز الرأسمالية بكل قوتها وعنفوانها وقدرتها التقنية، وتَصبُّ في دول الأطراف، مثل مجتمعات العالم الثالث، التي تصبح في الواقع مُجَّد مستقبِلة لهذه الرسائل بكل ما فيها من قيم يُعدُّ بعضها سلبية أو مُدمِّرة، وهي في جميع الحالات تحمل أخطار الغزو الثقافي مما يُهدِّد الخصوصيات الثقافية لهذه المجتمعات.وكان من أجود بحوث الندوة بحث الأستاذ الدكتور عبدالقادر الرباعي من جامعة العلوم الإسلامية الأردنية في الأردن، وعنوانه: “المثقفون العرب والحضارة الغربية: ثقافة العولمة وعولمة الثقافة نموذجاً”. وقد بدأ ملخص بحثه بقوله: “العولمة ظاهرة يسعى موجدوها من الغرب بعامة، ومن أمريكا بخاصة، إلى السيطرة على العالم اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وإن كانوا يحاولون تجميلها بمسائل جوهرية مرغوب فيها، مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان والقضاء على البطالة والفقر والجوع وغير ذلك. وهي - مثل الاستعمار القديم - تهدف إلى الاستيلاء على ثروات الآخرين ومواردهم ومحو الخصوصيات القومية والثقافية”. ومما قاله: إن أُمَّتنا تقف أمام ثلاثة خيارات: الأول أن نسير وراء المغريات فيما يُقدَّم لنا ونقلِّده مُضحِّين بما لنا من تراث وفكر ومبادئ. والثاني أن ننكفئ على ذواتنا بعيدين عن التطوُّر لتتفشَّى فينا الخرافات ويَضمحل ذكاؤنا. والثالث أن نكون أُمَّة وسطاً نعمل في اتجاهين: أولهما تعزيز ثقتنا بأنفسنا، وثانيهما أن نشارك في التطوُّر والتحديث والمعاصرة بما لا يُؤثِّر على خصوصيتنا التي نكون قد أرسينا مبادئها ثابتة في قلوبنا. ولا بد من الإيمان بالقيمة الفُضْلَى لتراثنا وإحيائه والحرص على اللغة العربية الفصحى تعليماً وتدريباً واستخداماً يومياً. وإن على الإعلام السعي لتعميق الروح الدينية وإبراز أصالة التراث الحضاري والثقافي لأُمَّتنا. ولا بد، أيضاً، من مراعاة المعاصرة واكتساب كل جديد مفيد”. وإن ما دعا إليه الدكتور الرباعي هو أمنية كل مخلص لأُمَّته.
والله وليُّ التوفيق.