الكلمة التي ألقاها سمو أمير منطقة مكة المكرمة خلال تدشين سموه ورشة عمل التعدي على الأراضي في جدة أظهرت الوضوح والشفافية في الطرح دون مواربة، ومنها الاعتراف بوجود الفساد في كل الجهات الخدمية ابتداءً بإمارة المنطقة والشرطة والبلدية وليس انتهاء بالمحاكم الشرعية، وأكثر ما شد انتباهي في سرد سموه للأسباب، وقوفه عند بعض ملامح ثقافتنا العامة.
وهنا وضع الأصبع على الجرح، أمام حاجتنا الشديدة لإعادة تجديد الفهم لثقافتنا العامة، التي منها ومن خلالها نختزن في وعينا الباطن محيط الدائرة التي تسبح فيها عقولنا وتنطلق في فضاها أفكارنا، باعتبار أن السلوك ترجمة للفكر، وأن الفكر محاط ومقاد بأسوار الثقافة والوعي العام، فقد أظهر سمو الأمير ملمحاً لهذه الثقافة عندما قال: وهناك ثقافة التسامح التي تمادينا فيها وأصبحت مشجعة على التعدي على الأراضي، حتى المشرفين على الأنظمة وتطبيقها لديهم هذه الثقافة للتسامح. (انتهى الاقتباس). والتسامح لا شك أمر محمود ومرغوب ولكن ليس على حساب المصحة العامة، بإمكانك التسامح فيما يخصك ولكن ليس لك هذا الحق فيما يمس الآخرين، مهما كان موقعك، لأنك محكوم بأنظمة وقوانين، ومثل هذه الجزئية البسيطة في ثقافتنا السلوكية التي قد لا تُرى بشكل واضح هي في الواقع عينة صغيرة لسلوكيات هي حميدة وطيبة في ظاهرها لكنها متى تجاوزت حجمها الطبيعي تحوّلت إلى منفذ للفساد، وهناك أمثلة كثيرة وكثيرة جدًا لمثل ثقافة التسامح التي تتحول إلى ثقافة للتهاون، خذ مثلاً ثقافة “الأقربون أولى بالمعروف”، فمن يتجرأ على إنكار ذلك وهو مقتبس من آيات حكيمة في القرآن الكريم؟ لكن “الواسطة” حرمت المستحقين من حقوقهم وأعطت المحظوظين حق تجاوز غيرهم تحت هذه القاعدة.
وقد يقول قائل ومن حقه أن يقول: إن ترقية الثقافة والوعي العام لا يمر عبر حالة معينة مثل الاعتداء على الأراضي وإنما يستوجب الأمر الانطلاق من منظومة الحقوق والواجبات وتنشيط وتفعيل نظمها وقواعدها، فأنت مثلاً تدخل إدارة المرور لإنهاء معاملة فلا تجد أمامك إلا الشروط والضوابط المتوجبة عليك، لكن أبدًا لن تجد حقك في توفير موقف لسيارتك والإنجاز السريع والمعاملة الحسنة واحترام وقتك بتواجد الموظف المختص، وقس على ذلك في كل قطاع خدمي تتوجه إليه مثل المشافي وحق المواطن في العلاج أو المدارس وحق التعليم في مناخ لائق وهكذا، بل إن نقص ورقة في معاملة قد يعطل مصالحك في حين أن التعدي على حقك كمواطن صار كحق مكتسب لمن بيده سلطة أو صلاحية حتى ولو كان موظف تنفيذ صغير، دون أن يكون لك حق الاعتراض أو الشكوى إلا عبر طرق إجرائية طويلة هي في الواقع بمثابة عقوبة، أنت في غنى عنها، فتتجاوز مكسور الخاطر تحت قاعدة “اربح العافية” في صورة تبين حالة الاختلال في موازين الحقوق بين الفرد وبين الجهة الخدمية، مما يخلخل أيضاً في ميزان الواجبات بين المواطن بالإلزام والإجبار وبين الجهة الخدمية بالخيار وربما المزاج، فواجب عليك أن تدفع الرسوم وإلا... أما تعذر وجود سرير طبي فهذا يعود لإدارة المشفى.
خلاصة الأمر، كي نصحح بعض سلوكياتنا التي ظهر لنا ضررها، لا بد أن نراجع ثقافتنا الاجتماعية بكل أبعادها وزواياها، وخاصة ما يتعلق منها بمألوف أو متوارث من عادات وسلوكيات وقناعات تغيرت معطياتها حسب تغير الزمن ومعطياته، والخلاصة أيضاً، أن الفساد بتوسعه في السلوك والتطبيق أصبح عدواً يجب محاصرته والقضاء عليه فوراً، ليس من خلال هيئة مختصة فقط بل أيضاً من خلال التسليم -وبقناعة تامة- بحاجة كل فرد فينا إلى مراجعة النفس وتقليب الفكر في كثير من قناعات سادت عقلونا وسورتها في دائرة تسبح في محيط من الانتقائية والتذاكي على تغير وتبدل معطيات العصر، لنكتشف أخيراً كيف أهدرنا السنين والأموال والإمكانات، إلى الحد الذي صرنا نبحث عن أرض لمشفى أو مدرسة ولا نجد، ونقلب في أنظمة وقوانين ظهرت لخدمة الوطن والصالح العام فإذا بكثير منها يغيب أمام ثقافة لا تستوعب قيمتها.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni