عشت حياتي كلها أعتقد أن السعادة بالأخذ، حتى اكتشفت أنها تسمو وتتجلى بالعطاء.. أكتب هذا المقال فور انتهائي من زيارة تطوعية إلى مستشفى سرطان الأطفال بإمارة العين.. انطلقنا مع فريق جميل عشق العطاء وأدمن روعته، أسسته هيفاء بسيسو طالبة فلسطينية تفيض حبا ونشاطا ًفي الجامعة الأمريكية في دبي تحت عنوان Live and Give ، انطلقنا محملين بهدايا وألعاب وحلويات معتقدين أننا ذاهبون لنثر الفرح والتفاؤل على حياتهم المغلفة بالوجع والمعاناة، والمسكونة بحسرات الطفولة.. فتفاجأنا أن المرضى الصغار رغم كل آلامهم والأجهزة التي تلتف على أجسادهم المتعبة.. يسعدوننا ويرشون البهجة على قلوبنا ويخرجون أجمل ما فينا من إنسانية ورحمة، ويعيدون تعريفنا على أنفسنا من جديد.. أنفسنا التي ابتعدنا عن التواصل معها، وتغذيتها إنسانيا أثناء لهثنا وراء الحياة ومادياتها الكبرى معتقدين أنها ستجلب لنا السعادة التي لم نعد نعرف ماذا تعني.. أهي في المال؟ أم الجمال؟ أم الوصال؟ تساءلت كثيرا ما هي السعادة؟ ولم أعرف لها يوما إجابة أو تفسير حتى عرفت أنها تأتي حينما نكف عن البحث عنها.. ونتوقف عن رفع سقف التوقعات التي لطالما أصابتنا بخيبات متتالية.
يقول المثل الهندي: “لا يقاس العمر بعدد السنين، ولكن بما تحفل به السنين من عطاء يثريها ويغنيها” وللأسف أنه وعلى الرغم من كثرة النعم والخيرات من حولنا وبالرغم أن العطاء في ديننا عمل تصفق له السماء قبل الأرض، إلا أن كثيرا منا يجهل معناه وروعته، حين يقضي عمره باحثا عن الأخذ متجاهلا البذل أو حاصرا إياه في موسم معين.. كشهر رمضان أو موسم الحج.. وكأن للرحمة والخير مواسم ومناسبات.. ولا ألقي اللوم على هؤلاء فنحن نفتقد مراكز قائمة ومتخصصة للأعمال التطوعية، ولكن قبل ذلك علينا أن نفهم ما معنى العمل التطوعي وما هو مردوده الإنساني والاجتماعي والروحي.
العمل التطوعي هو أن تعطي شيئا من روحك قبل وقتك للآخرين.. تمنحهم الحب والرحمة والنشاط دون أن تبحث عن أجر أو مقابل.. هو ثقافة ومعنى عميق يرفع حس المسؤولية والإيثار في النفس الإنسانية.
في الدول المتقدمة التي معظم سكانها غير مسلمين يحظى العمل التطوعي بقيمة كبيرة ففي كندا وأثناء الحرب العالمية الأولى شعروا أن العالم مقبل على حرب عالمية ثانية فقرروا أن يفتتحوا مراكز تطوعية في كل أنحاء البلاد ورغم أن كندا بعيدا عن الحرب سياسيا وجغرافيا إلا أنها تأثرت كغيرها من دول العالم وحينما اندلعت الحرب كانت المراكز مليئة بالمتطوعين الذين خففوا من وطأة الحرب نفسيا واجتماعيا، وهي الدولة التي يحصل فيها من تزخر حياته بالعطاء والتطوع على فرص وظيفية أفضل فحسب الدراسات 80% من كان لهم تجارب تطوعية حصلوا على وظائف بعد التخرج، لعلم الشركات والمؤسسات أن المتطوع شخص محب ومتعاون وقادر على إدارة وقته بشكل ذكي.. أما في بريطانيا فهناك أكثر من مليون ونصف المليون متطوع مستعدون لبذل الوقت والجهد في سبيل إثراء العمل الاجتماعي في البلاد.
دبي أيضا كان لها تجارب رائدة في هذا المجال فقد تقدمت هيئة خدمة المجتمع بحصر عدد كبار السن الذين يعيشون وحيدين ولا يجدون من يمنحهم الوقت والقليل من الاهتمام ودعوا الشباب إلى التطوع لقضاء يوم معهم في منزلهم، المفاجأة كانت أن المئات تطوعوا وأناروا بيوت المسنين بالتعاطف والمحبة حيث جلسوا معهم وتبادلوا أطراف الحديث وقرأوا عليهم الشعر والقرآن بل وحتى ساعدوهم على تبديل ملابسهم وعلى الاستحمام.. هذه المبادرات النبيلة تكشف أن في قلوب الشباب مساحات متعطشة للعطاء والبذل والخير لكنها لم تعط الفرصة.
أدعو كل المسؤولين في هذا المجال لفتح الفرص وبناء المزيد من المراكز التطوعية فلازال العمل التطوعي عندنا فقيرا وبحاجة إلى يد تساعده على الوقوف حيث ما برح يقتصر على مبادرات فردية من شباب ينفق من ماله الخاص دون مرجع ينظم دوره ويصقل مواهبه.
الفكر التطوعي يجب أن يبدأ من البيت ثم المدرسة ومن ثم بدعم من الحكومة فهو مبدأ إسلامي وفعل إنساني راق وأصيل تعود خيراته وبركاته على المرء فور انتهائه منه.
نبض الضمير:
قال تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}.
Twitter:@lubnaalkhamis