الـحـديثُ عن الوساطة أمرٌ لا يملّه سمعٌ، ولا يكلُّ منه قلمٌ.. ولا ينضُب له معينُ جدل!

لماذا..؟

لأن الوساطةَ (تأكُل) مع الناس و(تشرب)، وتنام وتصحُو، بل وترافقُهم في غُدوَّهم وُرواحهم، وفي سَفرهم وإقَامتهم، وتلاحقُهم مسْمَوعةً أو مكتُوبةً، تحاصرُهم في مكاتبهم ومجَالسهم، تُوقظُهم صبَاحاً، وتوُدّعهم قبل منتصف الليل.. أو بعده قليلاً..! ومن كان في ريْبٍ مما أقول، فليسْأَلْ مسئولاً معنيّاً بشئون الناس ومصَالحِهم، وسَيَرَ في بعض ردوده عجَباً عُجَاباً، لماذا ؟ لأن هناك من الناس من يعتقد (مِيكْيا فيلياً) أن للوسَاطةِ باباً مفتوحاً على مصراعيه لمن شاء ولأيَّ شأنٍ كان، والغايةُ عند هؤلاء تبرّر الوسيلة!

لماذا الوساطة.. مرةًً أخرى؟!

لأنّ في بعضِ أنظمتنِا ولوائحِنا وإجراءاتِنا الإدارية بل وفي بعض عقُولنا وضمَائرِنا (ثُقُوباً) تَتَسلَّلُ منها (دودةُ) (الوساطة)، إنْ خيْراً فخير، وإنْ شراً فشَر!

ولأنّ جزءاً من موروثَنا الشعبيَّ وثقافتَنا الإداريةَ يشكّلان معاً في بعض الأحيان تُربةَ (تخْصيبٍ) لهذه الظاهرة، سُرعانَ ما تنبتُ في أحشَائها (دودة) الوساطة حتى لتبدُوَ وكأنّها بديلٌ لا بديلَ له!

وللناس في (التعامل) مع الوساطة قناعاتٌ وممارساتٌ متعدَّدة (يفَلسِفُون) من خلالها مواقفَهم منها ويُكيّفُون تعاملَهم معها.

1) فمنهم من يرى فيها ضرورةً، فيلجأَ إليها سرّاً وعلانيةً، لا يميّزُ فيها بين غرضٍ وآخر خَوفاً من شُبهة (البُخْل بالجاه)!

2) ومنهم منْ يرفُضُها رفضَ مَنْ يخشَى منها بأْساً.. أو ليَدْرأَ عن نفسه شرّاً، خوفاً أن يضرَّ بوساطته أحداً، أو ألاَّ يقبلَ شفاعتَه أحدٌ.. ولذا، يفضَّل أن يبقى (بابُ الشفاعة) عنده مُوصَداً في أسْوأ الأحوال، أو (مُوارباً) في أحسنها، كيلا يظلمَ أحداً من الناس أو يهدرَ ماءَ وجهه بسَببها لدى آخر، كَائِناً من كان!

3) وهناك من يُحكّم العقلَ والخبرةَ في كل (موقف وساطة) على حِدة، فيميّزُ بين (شفاعة) ترفعُ ظُلماً، وأخرى تدْفعُ إليه.. بين وساطة غايتُها النفع.. وأخرى نهايتُها الأذَى..!

والمرءُ السويُّ من الناس، مسئولاً كان أو عابرَ سبيل، لا يجد حَرجاً في التمييز بين هذه النماذج الثلاثة.. فَيسلكُ من السُّبل أوْسطَها.. ويحتكم إلى عقله وضميره في كل حال، فما اطمأنَّ إليه قلبُه من الدروب طرَقَه.. وما خشَيَ منها ضرراً اجْتنبَه!

والمرءُ السويُّ أيضاً مَنْ لا يرضى أن يُريقَ ماءَ وجهه في كلَّ ساحة.. ولكلَّ غرض.. ابتغاءَ مرضَاة الناس.. مثْلمَا أنه لا يستطيُع أن يْرهن ذمّتَه في مزاد ودَّ كلَّ الناس.. كلَّ الأوقاتِ.. ولكلَّ الأغراض.. وموقفٌ كهذا لا يخلوُ فـي كلا الحاليْن من شَطَطٍ قد يُغضبُ بعضُه الخالقَ.. ولا يَرْضَى عن بعضه المخلوق.. حتى ولو حَرِصَ صاحبُه!

أخيراً.. الوساطةُ فعل خيرٌ في مواقفَ لا محيصَ عنها، إن كان مآلها خيراً.. ينفعُ المستفيدَ منه نفْعاً لا يسْتصْحبُ أذىً لغيره.. وهي شرُّ أشِرٌ.. متىَ كانت شيئاً غيرَ ذلك، والفَرقُ بين هذا وذاك سرُّ لا يدركُه إلاّ ذو حلم لبيب.