لايشعر الإنسان بقيمة الوطن الحقيقية إلا بعد أن يغادر إلى بلاد أخرى.. من لديه انتماء وحب لوطنه يشعر بالغربة النفسية والفكرية والاعتيادية واختلاف العادات والتقاليد والأجواء والأفكار... إلخ، من الأمور التي يدركها كل عاشق لوطنه.. ولقد كنت في رحلة مكوكية استقر بي الحال في إحدى الولايات الأمريكية ولاية (أيوا) مستصحبا أولادي للدراسة ولقد أكسبتني هذه الرحلة الثقة مجددا في نفسي وبلدي الذي أجده خير بلدان العالم في كل شيء، وأحمد الله وأشكره أنني سعودي.. لقد تغير الحال في كثير من البلدان ومنها أمريكا وأوربا. وأصبحت العيشة فيها لا تطاق لأمور متعددة لم أكن أعهدها في السابق، فقد زرت أوروبا فيما مضى وكذلك أمريكا لعدة مرات لكن الحال في هذه الأيام كما يقول الإخوة المصريين (مايل) ضرائب مهلكة، هبوط في قيمة العملة، غلاء في الأسعار، الخدمة الطبية لا تقدم إلا لمن لديه تأمين، والذي يذهب في زيارة للطبيب وإمكاناته متواضعة يموت واقفا ولم يبقَ إلا التحية تدفع عنها ضريبة.. صدقوني لست مبالغا إذا قلت إننا نتمتع برفاهية وحياة أفضل بكثير مما تعيشها الدول المتقدمة أو الكبيرة كما يطلق عليها، رغم كل السلبيات التي تنتابنا أحيانا في أوطاننا.
أعود مرَّة أخرى للولاية التي استقر بي الحال فيها، لأحكي لكم بعضا من مشاهداتي وانطباعي وتداخلي مع كثير من مثقفيها وروادها الكبار في الجامعات والصحافة والإعلام.
لقد منّ الله عليَّ بصديق أعرفه منذ زمن يعيش في نفس الولاية ويعتبر بحق (جامعة متنقلة) ويعد من الرواد في جامعات (ايوا) التي يوجد فيها جامعات عملاقة وأكبر مستشفى تعليمي جامعي ومن هذه الولاية انطلقت علوم الفضاء والأبحاث الفضائية وعلماؤها هناك وأشياء كثيرة أخرى ومنها رواد في الطب والفيزياء والعلوم المهمة الأخرى، وفيها العديد من مراكز الأبحاث الجامعية وخلافها.
القصد أن هذا الصديق قام بتعريفي بكثير من أساتذة وعمداء الكليات والعديد من الصحفيين حيث يعد أحد أعضاء جريدة (ايوا سيتي سيتزن برس) (Iowa City Press- Citizen) وكذلك من الذين يعملون في مجال الإعلام في الولاية والتلفزيون المحلي حيث أيضا له برنامج أسبوعي في محطة تلفزيون ايوا.
وفي أحد اللقاءات وأنا أرافقه اجتمع حولي عدد من الأستاذة والصحفيين وأمطروني بالعديد من الأسئلة فطلبت من صديقي أن يرتب لقاء بيني وبينهم أستطيع فيه أن أتناقش معهم بدلا من إعطاء أجوبة على الماشي وحديث غير منظم ولا منضبط.. وفعلا تحقق ذلك وكان عبارة عن ندوة حوارية حول المملكة والتطور الذي تعيشه.. وتغيير بعض المفاهيم الخاطئة التي وجدت (80%) من المجموعة يحملونها عن المملكة نتيجة لوسائل إعلام مغلوطة ومعلومات ناقصة وعدم خروج الأمريكيين في الغالب عن محيط معيشتهم واعتقادهم أن بلادنا بترول فقط ولا شيء آخر.. رغم أننا في زمن الانفتاح العالمي والتقنية المعلوماتية التي تكشف العالم بين يديك في لحظات. واحترت في الأسباب الرئيسية لهذا التقوقع الفكري والمعرفي لدى الكثير من سكان أمريكا ومثقفيها.. وكان مستضيفي جزاه الله خيرا. وهو أحد الرواد في مجال العلم ومن أصل عربي قد جهز موعد ومكان اللقاء بيني وبين هذه المجموعات في كلية الفنون الجميلة في مدينة ايوا سيتي. وفي القاعة التي يقدم فيها محاضراته وهي في وسط مركز تجاري كبير يتواجد فيها جميع فئات المجتمع التعليمي وغيرها، وقد أمطروني بالعديد من الأسئلة، فقلت لهم في البداية «لا تزعلون مني ولا أزعل منكم» إذا أردنا أن نصل إلى حقيقة وليست دعاية إعلامية.
استمعت إلى كثير من الأسئلة فيها الواقعي وفيها الذي (يبط الكبد) بلهجتنا الدارجة في نجد، ومن هذه الأسئلة ما تعودنا عليه سابقا من هذه المجتمعات.. لماذا لا تسمحون للمرأة بقيادة السيارة فرددت على ذلك بقولي لماذا أنتم لا تسمحون بتعديل وضع الـ(Amish) «أمش» مجموعة من السكان لديهم. لا يستخدمون السيارات ولا أية وسيلة من الوسائل الحديثة ولا زالوا كما في القرون الوسطى، فوانيس، وحطب، وخيل بدلا من السيارات، وقلت لهم لماذا لا تجبرهم الحكومة على الدخول إلى ركب الحضارة.. قالوا (هذه خصوصيات لهذا المجتمع) وهم أحرار، قلت كذلك نحن هذه من خصوصياتنا ولا نريد أحدا أن يتدخل فيها والحكومة لم تمنع المرأة.. ولي العهد السعودي قال: إذا سمح الأهالي لنسائهم بقيادة السيارات فنحن لا نمانع ولكن مجتمعنا لا يرغب في مثل هذا الأمر لأن له خصوصيته الدينية والاجتماعية، أليس ذلك من خصوصيات مجتمعنا كما هي خصوصيات مجتمعكم والتعرض لها من خارج الوطن أمر مرفوض، قالوا بلى.
السؤال الآخر المتكرر: في كثير من البلدان سمعت منهم.. (لماذا يسمح بالزواج لديكم بأكثر من واحدة) كذلك قلت لهم، لماذا الـ(Mormon) لديكم يسمح للشخص بالزواج بأكثر من واحدة إلى عشرات، قالوا هذه خصوصية لهم وهم أحرار في ذلك حسب دينهم ومعتقداتهم، قلت نحن كذلك، أجاز الدين الإسلامي التعدد ولكن في حدود وبشروط وليس كما يفعل المورمون لديكم.. كانت حجة مفحمة أوقفت كثيرا من الأسئلة الأخرى.
ثم انتقلنا إلى مرحلة أخرى كانت تركز على المرأة وحرية وحقوق المرأة، وتكلمت بإسهاب في هذه النقطة معتمدا على الله ثم على حصافة مستضيفي في الإفاضة بالتعليق على ذلك حيث أوضحت أن المرأة المسلمة تتمتع بحقوق ومزايا لا تتمتع بها المرأة في المجتمعات الغربية.
وإن ذلك وارد بنص القرآن والسنة، وجزء لا يتجزأ من ديننا الإسلامي، أما في نواحي الحجاب قلت لماذا المرأة لديكم تمشي شبه عارية في الشارع وتخرج للرياضة بشورت داخلي وسنتيانات فقط قالوا بما معناه هذه من خصوصيات المجتمع، قلت ونحن كذلك المرأة المسلمة لها خصوصية منها الحجاب وهي تتبع في ذلك أمور دينها وليس تعليمات الشارع إنها خصوصية دينية نحرص عليها جميعا في بلدنا وهكذا كان الحوار حتى النهاية، أضاف عليه مستضيفي البروفسور (هاني القاضي) لمساته الساحرة وشرحه الوافي والراقي خاصة وأن لديه خلفية وافية وكافية عن الشعب السعودي فقد كان أول من أجرى زراعة الحالب في المملكة قبل 36 عام وعمل في المستشفى العسكري فترة من الزمن، وقلت لهم في الختام إنني لم أكن مستعدا للقاء ولا محضرا له بالشكل المطلوب وقالوا هل الصحافة والإعلام حرَّة لديكم قلت إعلامنا يجاري العالم بواقعية دون تمدد في الحرية غير المنطقية والبعيدة عن الواقع ونحن لدينا القدرة على التعبير عن آرائنا بشكل لا يخل بالواقع والآداب المتعارف عليها ودون المساس أو الإخلال بطابع المهنة في هذا المجال ونحن خارج وطننا سفراء نمثل بلادنا كما قال الملك عبدالله كل مواطن خارج بلاده سفير لوطنه، ومن هذا المنطلق تحدثت إليكم اليوم مع أنني لا أحب الخوض في أمور سياسية أو دينية لأن لها أساتذة وحدودي في الشعر والأدب والقصة والرواية ولقد وجدت تفهما كبيرا لما طرحته وما تم نقاشه وكان الحديث وديّا.. ولكن كما قلت في أول المقالة بأن المجتمع منغلق جغرافيا وبعض السكان لا يعرفون عن المدن المجاورة لهم شيء فما بالك في الدول ونحتاج إلى أن نصل إليهم ونصحح كل ما ينقل عنّا من صور غير صحيحة سواء بواسطة الإعلام أو الصحافة أو الأشخاص وكذلك الطلاب الذين يمثلون وطنهم خارج الوطن وإعطاء المحاضرات والندوات العالمية ودعوة بعض الصحف والصحفيين والمفكرين لحضور بعض الفعاليات الكبيرة التي تقام لدينا مثل الجنادرية وغيرها، فقد سألوني عن الجنادرية أيضا وأنهم معجبون بما يسمعون عنها فحبذا لو تمت دعوة بعض أجهزة الإعلام الأمريكي لمثل هذه المناسبات طالما أن لدينا أكثر من 60.000 طالب يدرسون هناك وكذلك في الدول الأوروبية الأخرى بدل إخواننا الذين يشاهدون ما نقدمه وما نعرضه كل عام.. كما أنني استشعرت الأهمية القصوى لكل مواطن بأن يكون عند حسن ظن بلده وقادته ومواطنيه عندما يكون خارج حدود الوطن وأن يدفع عن وطنه بكل ما أوتي من فكر وعلم وثقافة حتى نلغي بعض المفاهيم المغلوطة عنّا وعن ديننا الحنيف وشريعتنا السمحاء وأن يتوقف بعض السذج عن الإساءة للوطن خارجه.. لأن ذلك ينسحب على بقية الوطن وأن يكون لديهم غيرة على وطنهم يرفعون من قيمته وسمعته بدلا من الإساءة له، بارتكاب بعض الأخطاء التي لا تليق بنا ولا بمجتمعاتنا..
والله الهادي إلى سواء السبيل وهو حسبنا ونعم الوكيل.