خالد بن الوليد من شجعان الصحابة رضي الله عنهم جميعاً، وهو قائد مظفر، وقد كان عَرْضة لأقلام وألسنة أعداء دين الإسلام، ووضعوا في مسيرته شبهات، يقصد من ورائها النيل من الإسلام نفسه، ولعل هذا خير أراده الله له، ولمن ينال مثله من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فقد روي عن عائشة رضي الله عنها، من رواية جابر بن عبدالله قيل لعائشة: “إن ناساً ينالون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى أبا بكر وعمر، فقالت: وما تعجبون من هذا؟ انقطع عنهم العمل، فأحبّ ألا يقطع عنهم الأجر”. أخرجه رزين.
أما عبدالله بن عمر رضي الله عنهما فقد روى قاعدة شرعية، في هذا الأمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا رأيتم الذين يسبون أصحابي فقولوا لعنة الله على شركم” أخرجه الترمذي.
أما سيرة خالد فقد كانت موضع إعجاب الدارسين وشجاعته ميدان خصب للباحثين وقد كثرت الكتب التي تناولت حياته وأعماله، ومما طبع منها: خالد بن الوليد، لطه الهاشمي، وخالد الوليد لعمر، رضا كحاله، وخالد بن الوليد لصادق عرجون، وموجز سيرة خالد بن الوليد لمحمد سعيد الغرفي، وسيف الله خالد بن الوليد لابن زيد شلبي.
قال عنه خير الدين الزركلي: خالد بن الوليد، سيف من سيوف الله، الفاتح الكبير الصحابي، كان من أشراف قريش في الجاهلية، يلي أعنّة الخيل، وشهد مع مشركيهم حروباً ضد الإسلام، إلى أن جاءت عمرة الحديبية، وأسلم قبل فتح مكة، هو وعمرو بن العاص سنة 7هـ.
وجيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بضبّ، فلم يمد رسول الله يده إليه، قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله عليه الصلاة والسلام ينظر ولم ينهه، وفي رواية فلم يأكل منه رسول الله، فقال له خالد: يا رسول الله: أحرام هو؟ قال لا، ولكنه لم يعرف بأرض قومي فعافته نفسي، فأكله خالد.
وفي الاستعاذة بالله من مردة الجن وشرّهم، وما رسَمَته تعاليم الإسلام من علاج، يقي من كيدهم، روت حفصة بنت سيرين عن أبي العالية: أن خالد بن الوليد قال: يا رسول الله إن قائداً من الجن يكيدني، قال: “قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن برّ ولا فاجر، ومن شرّ ما ذرأ في الأرض، وما يخرج منها، ومن شرّ ما يعرج في السماء، وما ينزل منها، ومن شرّ كل طارق يطرق بخير، يا رحمن، ففعلت فأذهبه الله عني، رواه الطبراني، في الأوسط والكبير.
وقوّة صلابته رضي الله عنه في الحق، تظهر في شجاعته، وقوة بأسه، وفي حرصه على تبليغ دعوة دين الإسلام، حتى تنقاد القلوب إلى شرع الله عقيدة وعملا، وما موقفه من الصنم العزّى، وهي صنم كان يعبد من دون الله في الجاهلية، ومن أعظم الأصنام مهابة في قلوب المشركين، إلا نموذج لذلك. فقد روى قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، بعث خالد بن الوليد إلى العُزّى وكانت لهوازن، وسدنتها بنو سليم، فقال انطلق، فإنه تخرج عليه امرأة، شديدة السواد، طويلة الشعر، عظيمة الثديين، قصيرة، فقالوا يحرّضونها على خالد بن الوليد رضي الله عنه:
يا عُزى شُدي شدّة لاسواكها، على خالد ألقى الخمار وشعّري، فإنك إن لم تقتلي المرء خالداً، تبوئي بذنب عاجل وتقصري.. فشدّ عليها خالد رضي الله عنه فقتلها، وقال: ذهبت العزّى بعداليوم ثم ارتجز:
“يا عزّ” كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك”
قال قتادة: مشى خالد إلى العزّى، فكسر أنفها بالفأس.
وعن حيّان بن أبي جبلة، عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: ما عدل بي رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً في حربه منذ أسلمنا.
قال الذهبي: هاجر مسلماً في صفر سنة ثمان، ثم سار غازياً فشهد غزوة مؤتة، واستشهد أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم الثلاثة: مولاه زيد، وابن عمه جعفر ذو الجناحين، وابن رواحة.
وبقي الجيش بلا أمير، فتأمّر عليهم في الحال: خالد وأخذ الراية، وحمل على العدو، فكان النصر وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيف الله، فقال: “إن خالداً سيف من سيوف الله، سلّه الله على المشركين”، وشهد الفتح وخنيناً، وتأمر في أيام النبي عليه الصلاة والسلام، واحتبس أدراعه ولأمته في سبيل الله، وحارب أهل الردة ومسيلمة الكذاب، وغزا العراق واستظهر ثم إنه اخترق البرية السماوية بحيث أنه قطع المنازة، من حدّ العراق إلى أول الشام، في خمس ليالٍ في عسكر معه، وشهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر، إلا وعليه طابع الشهداء، ومناقبه غزيرة، أمره الصديق على سائر أمراء الأجناد، وحاصر دمشق فافتتحها هو وأبو عبيدة.
وحدّث ضمرة بن ربيع بسنده، قال: قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، لو عهدت يا أمير المؤمنين؟ لو أدركتُ با عبيدة ثم وليته، ثم قدمت على ربي فقال لي: لِمَ استخلفته؟ لقلت سمعت عبدك وخليلك يقول: لكل أمة أمين، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيدة، ولو أدركت خالد بن الوليد ثم وليته، فقدمت على ربي لقلت: سمعت عبدك وخليلك يقول: “خالد سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين” رواه الشاشي في مسنده (سير أعلام النبلاء للذهبي 1: 37-372).
ولاه رسول الله الخيل، ولما ولي أبوبكر وجهه لقتال مسيلمة، ومن ارتد من أعراب نجد، ثم سيّره إلى العراق سنة 12هـ ففتح الحيرة وجانباً عظيماً منه، وحوّله إلى الشام، وجعله أميراً فيها من الأمراء، ولما ولي عمر عزله من قيادة الجيوش بالشام، وولى أبا عبيدة بن الجراح، فلم يثن ذلك من عزمه، واستمر يقاتل بين يدي أبي عبيدة، إلى أن تم لهما الفتح سنة 14هـ.
فرحل إلى المدينة، فدعاه عمر ليوليه فأبى وكان مظفراً خطيباً فصيحاً، يشبه عمر بن الخطاب في خُلقِهِ وصنعته، ثم يزيد الزركلي في صفاته بقوله: قال أبوبكر عجزت النساء أن يلدن مثل خالد بن الوليد ، روى له البخاري (18) ثمانية عشر حديثاً وأخباره كثيرة (الإعلام للزركلي 2: 341).
أورد الترمذي في مناقبه حديثاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نزلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلاً، فجعل الناس يمرون، فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، من هذا يا أبا هريرة؟ فأقول: فلان. فيقول: نعم عبد الله هذا، ويقول من هذا؟ فإذا قلت: فلان فيقول: بئس عبد الله هذا، حتى مرّ خالد بن الوليد، فقال: من هذا؟ فقلت: خالد بن الوليد فقال: من هذا؟ فقلت: خالد بن الوليد، فقال: نعم عبد الله خالد بن الوليد سيف من سيوف الله (جامع الأصول 9: 102).
وقد أجمل الذهبي الوصف فيه فقال: سيف الله تعالى، وفارس الإسلام، وليث المشاهد، السيد الإمام الأمير الكبير، قائد المجاهدين أبو سليمان القرشي، المخزومي المكي ابن أخت أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث، هاجر مسلماً في صفر عام ثمان (8) من الهجرة، ثم سار غازياً فشهد غزوة مؤتة، ثم شهد حروب الشام، ولم يبق في جسده قيد شبر إلا وعليه طابع الشهداء، وفي رواية إلا وفيه طعنة برمح، أو رمية بسهم.
أمّره أبو بكر على سائر أمراء الأجناد، حاصر دمشق فافتتحها هو وأبو عبيدة، عاش ستين، وقتل جماعة من الأبطال، ومات على فراشه فلا قرّت أعين الجبناء، ومات بالمدينة بخلاف ما يعتقده بعضهم أنه مات بحمص سير أعلام النبلاء 1: 366).
وأما حديث الضب الذي مرّ بنا، فقد أورد الذهبي: خبراً عن مسلم في صحيحه في باب الصيد، يزيل الشك عما يعتقده بعض الناس في أمر هذا الحيوان، أن عبدالله بن عباس قال: أخبرني خالد بن الوليد، بأنه دخل على خالته ميمونة بنت الحارث، إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عندها ضباً محنوذاً، قدمت به أختها حفيدة بنت الحارث، “لعلها حميدة” من نجد، فقدّمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع يده، فقال خالد بن الوليد، أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه، قال خالد: وقد سأل عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم حنين، وتخلل الناس حتى دلّ عليه، فنظر صلى الله عليه وسلم إلى جرحه، وحسب قول الراوي: عبدالرحمن بن أزهر أنه صلى الله عليه وسلم نفث فيه. (سير أعلام النبلاء للذهبي 1: 369).
أما عن مكانته الفقهية، التي اقترنت بدوره في الجهاد، في سبيل الله فنرى الكتاني يعتبره من فقهاء الصحابة، حيث أورد له في موسعته: معجم فقه السلف عدداً لا بأس به من المسائل، التي يتضح منها دور الصحابة رضوان الله عليهم في نشر دين الله، حيث يمتزج العلم بالشجاعة، والحماسة لنشر دين الله، والتطبيق بالعمل، ودعوة الناس إلى دين الله، لا تكون إلا بالعلم والمعرفة، والقدوة في العمل مع سلامة التطبيق، فقد أصبح حديثه رضي الله عنه في الضب: حجة في إباحة أكله، منهم علي بن أبي طالب، وجابر بن عبدالله، إلا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره قد صحّت إباحتهم له استناداً على حديث خالد بن الوليد فيه. (معجم فقه السلف 4: 169).
وفي أثناء المعارك الحربية قد يحوز العدو من أموال المسلمين شيئاً سواء: دابة أو عبداً آبقاً، أو غير ذلك.
فإذا ظهر عليهم المسلمون واحتازوا المال منهم فلا يدخل في الفيء، وإنما يعاد لصاحبه: فقذ ذهب العدوّ بفرس لعبدالله بن عمر، فلما هُزِم العدو، وجد خالد الفرس، فرده إلى عبدالله بن عمر، ومثله العبد الذي أبِقَ يوم اليرموك لابن عمر، فلما ظهر عليهم المسلمون ردوه إليه. (معجم فقه السلف 4: 136).
وفي سّلب المقتول يروى واثلة بن الأسقع: أنّه ركِب وحده حتى أتى باب دمشق، فخرجت عليه خيل منها، فقتل منهم ثلاثة وأخذت خيلهم، فأتى بها خالد وعند عظيم الروم، فابتاع منه سّرْجَ إحداها بعشرة آلاف، ونفله خالد كل ما أخذ من ذلك، ودليل خالد ما رُويَ عن رسول الله بعد انقضاء حنين قوله: “من قتل قتيلاً له عليه بينه فله سَلَبُه” رواه مالك (معجم فقه السلف).