الاختلاف سنّة الحياة.. ولولا الاختلاف والخلاف بين البشر لكانت الدنيا كما هي منذ أن خلقها الله عزّ وجل.. لكن الطريف في الأمر أنّ الكثير منا لا يستوعب فكرة أنّ للحقيقة أكثر من وجه.. وعندما نختلف لا يعني هذا أنّ أحدنا على خطأ.. ربما نكون جميعاً على صواب أو خطأ إلاّ أنّ كلاً منا يرى ما لا يراه الآخر.
قضية تُطرح.. موضوع يُكتب.. حوار يدور بين مجموعة.. نقاش تلفزيوني.. كلُّ طرف من الأطراف متيقِّن بموافقة الطرف الآخر له في الرأي، وما أن يكون هناك مغايرة في الاتجاه تتغيّر سحنة الوجوه ونبرة الأصوات وتطغى الحدّة على مشهد الحوار، وعندها يتحوّل الموقف إلى (إنْ لم تكن معي فأنت ضدي).
لطالما كنت أؤمن بمقولة اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. لكن يبدو أنها حازت على مثالية بدرجة أكبر من الواقع بكثير مقولة نتغنّى بها.. وحين تخالف أهدافنا وآراءنا ونزعاتنا.. نُغيِّبُها بل نلغيها من فهارس قواميس الحِكَم لتبقى فقط مطاطاً نتلاعب به كيفما شئنا ليناسب ما نصبو إليه.
إنّ أي مجتمع إنساني مهما كانت درجة تحضُّره ورقيه ومدنيّته.. لابد أن يبقى الاختلاف في الرأي والتباين في الأفكار بين أفراده.. وما يراه أحدهم مصلحة قد يراه آخر مفسدة، وما يحبه شخص قد يبغضه آخر، وبالتالي فالاختلاف في الآراء والأهواء يخلق نوعاً من التباين والتنوُّع في الحياة وفي المجتمعات الناهضة.. وما قيمة الاختلاف إلا للوصول إلى أفكار جديدة تلاقح أو تنقح أفكاراً قديمة للوقوف على أفضلها وأسماها.. وصولاً إلى الإبداع في الطرح وحل المشكلات.. لكن يبقى كل ذلك مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بمدى ما يحكم هذا الاختلاف في الآراء من علاقات احترام وتقدير إنساني متبادل، ونحن لا نملك التحكم في آراء الآخرين.. لكن علينا أن نجادل بالتي هي أحسن وليس خطأ أن يتمسّك الإنسان برأيه طالما أنه مقتنع به، وليس خطأ أن يحاول الإنسان إقناع الطرف الآخر بوجهة نظره التي يعتقد ملياً أنها صحيحة، لكن الخطأ كل الخطأ أن نستخدم الإرغام بالعنف اللفظي والمعنوي لإجبار الآخرين على تقبُّل وجهات نظرنا.. وللأسف هذه الظاهرة ماثلة تماماً في واقعنا وفي حياتنا الاجتماعية.
خروج عن نطاق التحكم ومجاوزة للحدود وتضارب فكري يقود إلى نزاع وشقاق ومشاعر من الكراهية نتيجة تشعُّب الآراء.. رأي ورأي آخر.. رأي مؤيِّد وآخر معارض.. وقد تتفق الآراء وقد لا تتفق (وغالباً لا تتفق).. لكن يبقى بين هذا الرأي وذاك خيط رفيع يسمّى الود.. فهل اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية.. قد تكون مقولة خاطئة وقد تكون مضلِّلة.. وقد تكون خاطئة ومضلِّلة معاً.. والخطأ والتضليل معاً هما في تصوُّري الأقرب إلى هذه المقولة.. فربما عدم وضوح الخطأ فيها يكمن في إيقاعات كلماتها المثالية.. ومثاليتها هو مصدر التضليل فيها.. ويبدو أنّ هذه المقولة تقع ضمن جملة مقولات خدعتنا إيقاعات حروف كلماتها الرنانة.. وبهرتنا مثاليتها اللامحدودة، لكن واقعنا أظهر خواءها لأنّ كثيراً من القضايا أفسدها الاختلاف الذي عصف بها.. فظلت عبارة تُردّد فقط دون أن تُطبّق.. وأصبحت الحوارات والنقاشات بعيدة كل البعد عن معنى الاختلاف بطريقته الحضارية ومنظوره العقلاني.. ومع ذلك كله لا زلنا نردد شعار اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية، رغم أنّ أمامنا محطات كثيرة ترفع شعار:
إذا لم يكن صفو الودِ طبيعةً
فلا خيرَ في ودٍ يجيءُ تكلفا
نقطة نهاية السطر
عجلة الزمن تسير في اتجاهٍ واحد.. ولا يمكن بأيِّ حالٍ من الأحوال أن تغيّر مسارها وتعكس الاتجاه.. ولكل زمن من الأزمنة روحه الخاصة.. وما نعيشه في زمننا هذا يختلف عن ما عاشه آباؤنا وأجدادنا في ماضيهم، الغريب في الأمر أنّ الكل يردد.. الزمن تغيّر.. فهل التغيُّر في الزمن أم في البشر؟ اتحد العقلاء في:
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا
وما لزماننا عيبٌ سوانا