أحياناً يواتيني شعور بأن العمر ساعات..
تمضي اللحظات الجميلة بلمح البصر.. وهي في مجملها تكوّن الساعات ومن ثمّ الأيام..
إذاً هو الزمن الذي ينسرب من بين أصابعنا كذرات الرمال التي لا يمكنها أن تبقى في قبضة يدك طويلاً..
وهو كذلك حقاً.. لكن هذا الإحساس يزداد كثافة ووضوحاً في مواقف معينة..
حين تفقد عزيزاً يواتيك شعور بأن المكان أصبح خالياً بعده وأن موقعه أصبح شاغراً ليس من السهل أن يملأه أحد ما، فما بالك حين يكون ذلك العزيز ملء السمع والبصر!
من أولئك الذين فقدناهم وتركوا موقعاً شاغراً من الصعب أن يأتي أحدٌ لملئِة مرةً أخرى بنفس البصمات وبالأثر ذاته “غازي القصيبي”..
فقدناه على الصعيد الأدبي والاجتماعي..
كان له حضور مميز في كافة قضايا المجتمع وخاصة في أوقات الأزمات، كان له صولات وجولات.. وربما يكون هذا أحد الأسباب الملحة لإحساسي بالفقد.. كلما مرَّ مجتمعنا المحلي أو العربي بموقف ما تمنيت كثيراً لو كان معنا لكان له صوت ورأي مميز ذلك أمر مؤكّد.. كلما مررنا ببعض المواقف الاجتماعية أو السياسية أتمنى سماع رأيه حولها..
كنت أستشعر أبوته الروحية عن بعد، وهو تلك الشخصية الأدبية، رجل الإدارة الناجح المتفوّق.. أستشعر احتواءه للمواقف وتحليلها وهذا بحد ذاته يبعث إحساساً بشيء من الراحة والأمان، ثمة رجل حكيم نستند إلى آرائه..
أجّلت هذه الكلمات التي كان لا بد أن تُكتب في وقتها لبعض الظروف التي اعترضتني أهمها انشغالي بدراستي ولعدم ارتباطي كتابياً.. لكن الكلمات بقيت تتردد في ذاكرتي..
أتذكّر تلك الهجمة التي تلقّاها حين أصبح وزيراً للعمل، فقد تقلَّد منصباً صعباً منذ بدئه كان عبارة عن الكثير من التراكمات هي التي جعلت الأمر معقداً وكان هو في وجه المدفع - كما يُقال - هو رجل الدولة والإنسان المميز الذي حمّله البعض مسؤولية الكثير من المشكلات كالبطالة، وكذلك حمّله التجار ورجال الأعمال مسؤولية تردّي أحوالهم وقتها بينما أجزم بأن ثمة قضايا أخرى ومعلومات خافية لا نراها على السطح هي التي أفرزت تلك المشكلات.
أتذكّر جيداً في السنوات الأخيرة قبل وفاته وخاصة منذ تسلّمه وزارة العمل أخذت تبدو على ملامحه آثار التعب وخفَتَ صوتُه إلى حد ما لم يعد مثل ذي قبل.. توجست خيفة، ثم كان أن تراجعت أخباره في الإعلام كثيراً.. حتى قرأت قصيدته التي يرثي فيها نفسه.
قيل عن القصيبي الكثير وكتب الكثيرون عن سيرته سواء أولئك الذين كانوا من أنصاره في حياته أو لم يكونوا وعليه فلن أعيد هنا الحديث عن سجاياه..
لكنني أشير إلى أن أبرز ما يعجبني في شخصيته - رحمه الله- قوة العزيمة والجرأة والحسم في اتخاذ القرارات إضافة إلى المبادرة والقدرة الفائقة على تحمّل المسؤولية.. لكنه أجله.. وهو القضاء والقدر الذي لا نستطيع سوى التسليم به..
أتذكّره وأدعو له، وأختم حديثي عنه بإحدى عباراته (لو وقف المهمّون في الطوابير لتحسّنت الخدمة المدنية عبر الكرة الأرضية عبر يوم وليلة).