فوجئت بموعد بَعْثِ المقال على [إيميل] رئيس تحرير, ولما أكن أعددته من قبل, وساعتها تذكرت مقولة العلامة [حمد الجاسر] رحمه الله عن نفسه: [إنني رجل نساء] وهو قد قالها في سياق مطبات الأخطاء المطبعية, إذ استبدل الناسخ [الفاء] بـ[النون].
ولما لم أجد القدرة على التعاطي مع القضايا الساخنة, وهي من الكثر والتنوع, بحيث لا تدري ما تصيد, فقد رصدت عوارض ساعتي التي أنا فيها, تمشيا مع قول الشاعر:- [ولك الساعة التي أنت فيها], وكم يُقَدِّر الإنسان, وتضحك الأقدار, {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ}.
لقد كان في نيتي قضاء نهاية الأسبوع في [روضة التنهات] مع لفيف من أصدقاء الطفولة, الذين طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا. وهم لفيف من رجال الأعمال والمتقاعدين الذين استدبروا الغرائز والشهوات أو استدبرتهم, وفرغوا لاجترار الماضي, وتقليب الأوراق القديمة, على شاكلة الأثرياء المفلسين, وهل بعد السبعين من تطلعات لزينة الحياة الدنيا؟ وفيما أنا أحزم أمري, سمعت هاتفاً ينقل لي خبر وفيات لبعض المعارف والأقارب, فعدلت عن رحلة المتع إلى رحلة العبر, وخضت في لجج الأحزان بدل مياه الغدران, وأقل الحقوق أن تتبع جنازة عزيز عليك, وأن تصلي عليه, وأن تقف على قبرة, وأن تشهد تلك المراسم التي ترقبك في نهاية الطريق, فلكل حي نهايته الخاصة به, وهي اليقين الذي لايحتاج إلى برهان {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} واليقين الموت, ولا عبرة بشطحات الصوفية, وليهم أعناق النصوص, وإسقاطهم الواجبات بتأويلات ضالة مضلة. واسألوا الله معي أن أوفق وأعان من لطيف خبير على استكمال بحث, أحسبه مهماً عن خوض المفسرين في آي الذكر الحكيم, عبر مناهج تعرف منها وتنكر. فمن عقلاني يستدبر الرواية والدراية, إلى وجداني يضل بخطراته طلاب الحقائق, إلى نصوصي ظاهري, لا يريم عن الدلالة الوضعية. والقرآن كما المورد العذب المتدفق لا تعكره الدلاء؛ لأنه حمال أوجه.
وظاهرة الجنائز وخدمتها واتباعها من الظواهر الحسنة, التي بادر إليها المحسنون, وهيؤوا لها كل الممكن من الخدمات. لقد شهدت وشاهدت مراسم دفن كثيرة, أحِسُّ معها أننا بخير, وأن في أهل الدثور خيراً, فـ[جامع الراجحي] في الرياض, حين تشهد فيه جنازة, تشعر بالارتياح؛ لأن الخدمات التي تقدم للميت ولذويه تبعث على الاطمئنان, وتلك من نِعَم الله على خلقه, فالمصابون قد يذهلون عن أشياء مهمة, وليس لديهم لحظة الصدمة ما يمكنهم من التوفر على كل متطلبات التجهيز والدفن. وإذا وجد من خارج المصابين من ينهض بمثل هذه المهمات, كُفي أهل الميت السعي وراء متطلبات الغسل والتكفين والنقل. ولقد روى لي أخي العزيز الوجيه [سليمان الراجحي] أمد الله في عمره, ما دفعه إلى السعي في هذا الطريق الذي غفل عنه كثير من المحسنين, وهو تهيئة متطلبات الميت, وذلك حين لقي العنت عند وفاة والده أو والدته, لست أدري.
فهل يقتدي الموسرون بتلك السنن الحسنة ويسدون بعض الخلال في مدن ومحافظات لم تتوفر على مثل تلك الخدمات؟
واتباع الجنائز من السنن الحسنة؛ لأن فيها جبراً لخاطر ذوي الميت, وكسباً للأجر, وتذكيراً بالموت, وترقيقاً للقلوب, ولقاءً بمن تعرف في حالة نفسية, قد تحمله على التخلي عن مواقفه. و[كفى بالموت واعظاً], وحضور تلك المراسم الأخْروِيَّة قربة ومواساة وموعظة, حث عليها الإسلام, ولها تجلياتها, لمن يتأمل في أحوال الميت. إذ لكل جنازة ظروفها وملابساتها وأحوالها, وتجليات المواقف حولها, والمتدبر من يرصد تلك الظواهر, ويقوِّم هذه المواقف. فمن ميت ترك من خلفه ذرية صغاراً, لا يدري ماذا يفعل الله بهم, ومن ميت ترك وراءه أموالاً طائلة, لا يدري ماذا يفعل الورثة بها من بعده, فهو قد حمل مرَّها, وترك حلوها لمن أورثه, ومن هالك ترك وراءه منكراً من القول, يعلم علم اليقين أنه باق كما شاهد الإدانة, يقرؤه البر والفاجر, ويفعل فعله في أجيال لم تولد بعد. ومن ظالم موغر للصدور, مُسْتَعْد للمظلومين بالدعاء المستجاب, رحل معه بأوزاره وأوزار من ظلمهم أو أضلهم, ومن ميت مسالم, قاصد في مشيه, غاض من صوته, مسلم وجهه لله, وهو محسن, متمسك بالعروة الوثقى, مُثَبَّتٌ عند السؤال. تلك تداعيات تخطر بالبال في تلك اللحظات الأخروية.
لقد شهدت جنائز كثيرة, أوجف من خلفها خلائق, يتفاوتون في أحوالهم, ويتباينون في مواقفهم, ولربَّما يعودون المرَّة تلو الأخرى, حتى يؤتى بهم, ثم لا يعودون. وعُدْتُ من تلك المشاهد بما لم تستطع توفيره مجلدات من الكتب, ولكن الأمل والنسيان يعيدان الإنسان إلى الحياة, كما كان من قبل, وتلك من نِعَم الله على العبد, فهو لا يستطيع استدامة الحزن, ولا يقدر على تذكر الموت وما بعده في كل لحظات حياته, ولن يعمر الكون إلا بالأمل والنسيان. فالفقير يأمل الغنى, والمريض يأمل الصحة, والسجين يأمل الحرية, والمدين يأمل القضاء, والمصاب ينسى المصائب ويسلو, وكأن شيئاً لم يكن. وإذا كان الاستغفار مغسلة الأدران واللمم, فإن النسيان مغسلة المصائب, وكم من باكية على حبيب أو وحيد, ملَّت البكاء, ولم تمل الحياة, وكم من مفجوع يئس من العوض, فعوضه الله خيراً مما فقد. وتلك [أم سلمة] رضي الله عنها, راوية حديث الخَلَف الخيّر, تستبعد أن تعوض خيراً من [أبي سلمة] فكانت من بعده أم المؤمنين, ولولا ذلك الأمل لما استطاع أحد أن يعمل, وهو يعلم علم اليقين أنه ميت, وأنه مدفون في التراب, وأن هذا الجسم المادي لا يختلف عن أي جسم آخر {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} و[كل الذي فوق التراب تراب], وما أعدت قراءة رائعة “المعري” الرثائية إلا أيقنت أننا نمارس دوراً مسرحياً في هذه الحياة, وأن الملقن وراء “الكواليس” وأن الخروج على النص من المستحيلات. وقصة “موسى” عليه السلام مع “الخضر” خير شاهد {وَمَا فَعَلْتُه عَنْ أَمْرِي} إنه القضاء والقدر {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}, {يَمْحُو اللّه مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَه أُمُّ الْكِتَابِ}.
و”المعري” المفكر الشاك, يعلن أنه لا يجدي في ملته واعتقاده نواح الباكيات ولا ترانيم الشدات, ورؤيته التشاؤمية تكاد تكون سيدة الموقف عند العقلاء:-
[ذو العقل يشقى في النعيم بعقله]
وكل من عمق الرؤية, ودقت عنده الملاحظة, أدرك أن هذه الحياة بدون الإيمان شر مستطير:- [إذا الإيمان ضاع فلا أمان].
تلك خطرات عرضت لي, وأنا أودع رفاق درب كنت أحسبهم مقيمين ما أقام عسيب, فإذا بهم يمرون بحياتنا كالطيف, ليعودوا إلى منابتهم, ومن أصدق من الله قيلاً {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} وليست الإشكالية في الخلق, ولا في الإعادة, ولكنها في الاخراج ثانية:- {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَة أُخْرَى} فبعد هذا الإخراج أهوال, تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت, وتضع كل ذات حمل حملها. تلك التداعيات كالأوابد, لو استبقها المتذكرون بالقيد, لكانت لحظات من صحوة الضمائر, وما أحوجنا إلى سويعات نتذكر فيها ما نحن فيه وما نحن قادمون عليه, [فتعالوا نؤمن ساعة] كما في الأثر, وأخيراً تذكرت المثل “الأمريكي”:- [عليك ألا تأخذ الحياة بشكل جاد فغداً ستموت].