نعيش الساعات المهمة من تطورنا، مرحلة بدء البحث عن بديل للنفط الذي هو في أحسن الأحوال آيل للنضوب. وهذه حقيقة متفق عليها ولا يقول بغيرها إلا من ليس لديه علم. ويسعى المسؤولون جاهدين لوضع أفضل الخطط لتنويع الاقتصاد من الاعتماد على هذا المصدر الوحيد غير المتجدد إلى الاعتماد على المصدر المتجدد والمبدع دائما وهو الإنسان.
حيث إن الاستثمار في القدرات والموارد البشرية أثبت عبر التاريخ أنه الموارد الأهم على الإطلاق. كما أنه من المسلم به أيضاً أن لا يمكن تنويع مصادر الاقتصاد دون قاعدة علمية بحثية تدعم جوانب الاقتصاد الأخرى من تجارة وصناعة، بل إن البحث والمعرفة أصبحا اقتصاداً في حد ذاتهما. ولذلك تحاول الدولة جاهدة التنويع في الاستثمار في الإنسان، فتوسعت بالابتعاث للخارج بشكل غير مسبوق، كما تم دعم التعليم العام والعالي بموارد غير محدودة. فلم يعد هناك عذر لأحد والكرة اليوم في ملعب المؤسسات التعليمية.
لكن الموارد التعليمية الضخمة التي تضخ في وقت قصير في قطاع ما قد تتحول من عامل دعم لعامل ضغط، لا سيما وأن التعليم أكثر المرافق التصاقاً بحياة الناس، والإنسان خلق بطبعه عجولا. فالناس يظنون أن هذه الموارد ستتحول إلى نتائج ملموسة بين عشية وضحاها، وهذا قد يكون ممكناً على مستوى المباني والمنشآت المنظورة فقط، ولكنه غير متاح على مستوى النهوض بالجوانب غير المرئية كالبحث، أو التطوير العلمي الأكاديمي. فلا بد من إيضاح حقيقة إدارة مؤسسات تعليمية كالجامعات مثلاً، لا سيما في ظروف انتقالية يستعجل فيها الآخرون النتائج. وقد يستغرب البعض لو ذكرت أنه في كثير من الأحوال قد لا يرى فيه قائد المؤسسة التعليمية نتاج عمله إلا بعد مغادرته، وقد يشكر أحيانًا على ما قدمه إذا ما كان من أتى بعده وفياً، وفي أسوأ الأحوال قد تنسب إنجازاته لغيره.
فإدارة الجامعات تتطلب إدارة من نوع خاص؛ من حيث كونها تضم مؤسسات متخصصة متباعدة وفي مجالات مختلفة، ويديرها قلة متعلمون يطلبون عادة أكبر قدر من الاستقلال بالمسئولية للإنجاز، ويطالبون دائماً باللامركزية. ولذلك تعتمد الجامعات على تكاتف الجميع، وبدون استشعار المسئولية لا يمكن تحقيق أي إنجازات. وإدارة هذه المؤسسات لا يمكن أن تعتمد على معرفة كل ما يدور فيها لاستحالة ذلك، ولكن بتهيئة أفضل الظروف لها لتنتج وتبدع، ويكون ذلك على مستوى المنشآت المنظورة، والدعم المادي. ثم، وهذا أصعب من سابقه، لا يمكن لأي إدارة أن تطلع بشكل كامل ومباشر على الأمور غير المنظورة كالبحث العلمي، أو تحسن المستوى التعليمي، الذي يحكم عليه عادة من خلال المختصين و أوعية النشر. من هنا نستشعر حجم المسئولية التي تقع على من يطلب منه إدارة مؤسسة تعليميية ضخمة، وتطويرها وانتشالها لتتحول لما نريد، أي مؤسسة تعليميية وبحثية متطورة، فهذا يتطلب وقتاً طويلاً و جهوداً قد تتفاوت في درجة توفيقها. وهو أقرب لمحاولة التحليق عالياً بطائرة عتيقة مهملة، و يتطلب طواقم مختلفة متنوعة من إعادة تأهيل وصيانة، ولمهندسين أرضيين، ومهندسين جويين، وأطقم ملاحة. وفي حال إخفاق أي منهم في أدائه سيظهر ذلك على مستوى أداء الطيارة، أو قد يعرض الطائرة للمطبات الهوائية. و يضاف لذلك، أن معنويات المهندسين والعاملين التي عايشت هذه الطائرة الرابضة تكون قد فقدت شهيتها للعمل، وربما جزءاً من تأهيلها.
لتطوير التعليم العالي نحتاج أيضاً لتطوير الجانب الإداري والبيروقراطي، فالبيروقراطية هي العدو الأول للتجديد والإبداع. ولكن التقليل من البيروقراطية والرقابة قد يكون سلاحاً ذا حدين، ويسمح بما لا يحمد عقباه من تصرف خاطئ أو حتى غير مقبول. فعندما أزاح قرينسبان الشريط الأحمر (الرقابة) عن سوق المشتقات الأمريكيية بهدف تحفيز الاقتصاد، كانت النتيجة التلاعب من قبل مسؤولين في شركات كبرى، ثم أزمة كبرى عصفت بالاقتصاد العالمي. والجميع يعرف أن ضريبة التجديد هي الأخطر، ويقاس التجديد عادة بنسبة وتناسب الأخطأ مع الإنجازات. والكاتب يعرف بعض الشيء عن جامعة الملك سعود، التي يعمل في جزء منها، ولديه معلومات عنها تفوق معلومات غير العاملين فيها، وتقصر عن معرفة المسئولين عنها. إلا أنني أحسست بالقوة الجارفة لمحاولة التطوير فيها، والهزة القوية التي حركت جميع أرجائها. وفي رأيي فإنك إذا ما اطلعت على ما يجري في جامعة الملك سعود، الجامعة الأكبر في المملكة، تكون اطلعت على ما يجري في التعليم العالي عموما، فكثير من الجامعات الأخرى تنتظر جامعة الملك سعود لتتحرك من أجل أن تحذو حذوها.
فعلى مستوى المنشآت لا يجادل عاقل في أن الجامعة تضاعفت عدداً وعدة في هذا المجال، وهذا ماثل للعيان ولا جدال ولا مراء فيه، لا سيما وأن الجامعة نجحت في استقطاب الكثير من التبرعات لبناء أوقاف لها ستسهم في ضمان مستقبلها، وبناء مراكز بحث متخصصة مع كبرى مؤسسات الاقتصاد الوطني. وعلى المستوى الإدارى، أصبح كل شيء يدار بشكل آلي، بدءاً من المعاملات الإدارية وأمور القبول والتسجيل، وانتهاءً برصد الدرجات الأكاديمية. وهذه هي أهم الأمور التي تسأل عنها إدارة الجامعة.
بقيت الأمور غير المنظورة والتي هي المتعلقة بالعمل العلمي، والتطور الأكاديمي وهي أمور صعبة المتابعة حتى من الإدارة نفسها، حيث نجد أنفسنا هنا أمام أساليب مختلفة للعمل. ويبدو أن إدارة الجامعة اختارت أسلوب الصدمة التطويرية لتحفيز العاملين فيها، فهي دعمتهم بشكل غير محدود، فاق توقعاتهم، وحاولت تذكيرهم بأنهم يعملون في جامعة عالمية راقية تراقبها عيون العالم الخارجي أجمع، وأن أداءهم ستقيسه أجهزة تصنيف واعتماد عالمية، وذلك لإبعادهم عن ولائهم للأساليب الجامدة القديمة، وهذا يذكرنا بأسلوب الصدمة والرعب الذي استخدمه الأمريكان في محاولة تغيير ولاء القوات العراقية لصدام. وحقيقة فبعض إداري الجامعة وأساتذتها لم يكن يصدق عينيه من الثقة الكاملة التي منحت له، ومنهم بصراحة من حاولوا استغلال ذلك، ومنهم من قد تكون خانته أمانته. ولكن البعض حاول جاهداً الاستفادة مما أتيح له بالشكل الأمثل، ومن هنا جاءت مشاريع الجامعة وبراءات الاختراع فيها.
ومن هذه الزاوية يمكن أن ينظر لقضية التصنيف الأكاديمي، وإحصائيات الأبحاث التي أثارت لغطاً كبيراً، فللجامعة رؤية في الداخل للتصنيف والمشاريع قد تختلف عن الرؤية الموجودة في الخارج، فآثار الصدمة من قوتها ظهرت ليس في الجامعة فحسب، بل في المجتمع ككل، لم لا وهذه هي الجامعة القدوة في المملكة.
الآن وبعد أن هدأت العاصفة، وانقشع الغيم بدأت حسابات الربح والخسارة، وهذا في رأيي يعتمد على الزاوية التي ننظر منها للجامعة لا سيما وأن المنشآت قاربت الاكتمال، والتصنيف اعتمد، قبلنا أو لم نقبل حقق قفزات كبيرة، والجامعة لن تعود كما كانت. ما بقي في العمل، وهو الأهم، الاهتمام بالجانب غير المنظور وهو الجانب التعليمي. ولكن هذا لا يمكن أن يتم في ظروف متوترة، ومحبطة. وعليه فلا بد من تقييم الجامعات عموماً، ومنها جامعة الملك سعود تقييماً موضوعياً، ومن جهات لم تتأثر بموجات التغير التي مرت بها الجامعة ولا الآراء التي كتبت حولها. وقد يكون ذلك من قبل أجهزة، أو فرق علمية عالمية تختارها الدولة ويشاركها مسئولون من الداخل، ثم ترفع هذه التقرير للمسؤولين أو تنشره في وسائل الإعلام. وهنا يمكن معرفة مكامن الإنجاز والتقصير، ويحدد مسؤولية كل مسؤول، بحيث يستمر دعم الجامعات حسب هذه التقارير، فدعم التعليم العالي وصل، في تقديري نقطة اللاعودة، ولكنه يحتاج لمرحلة إعادة للتوازن، ولتوضيح كثير من الأمور، ولإعطاء كل ذي حق حقه. والله الموفق.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif