“تركيز القوة الاقتصادية (للأقلية) ورأسمالية الدولة تدخل في مرحلة جديدة من الفوضى الخلاقة، ولكن مع انحراف: خلاقة بطريقة تغني الأغنياء وتقوي الأقوياء، أما البقية فهم أحرار في النجاة كما يشاءون، وهم يحتفلون في يوم الولاء والقانون”. من كلمة تشومسكي في يوم العمال العالمي..
جاءت هذه الفقرة في كتاب نعوم تشومسكي الجديد “صناعة المستقبل” (Making the Future) الذي صدر مؤخراً، ويحتوي على 52 مقالة أو مادة، كثير منها افتتاحيات مؤسسة نيويورك تايمز. الكتاب يقدم رواية معارضة للرواية الرسمية والدارجة للأحداث السياسية الكبرى منذ 2007 حتى 2011، شاملة: الحروب في أفغانستان والعراق، سباق الرئاسة الأمريكية، صعود الصين، نهوض اليسار بأمريكا اللاتينية، تهديد السلاح النووي بإيران وكوريا الشمالية، غزو إسرائيل لقطاع غزة وتوسيع المستوطنات، التطورات في تغير المناخ، الأزمة المالية العالمية، الربيع العربي، اغتيال بن لادن، حركة “احتلوا” (Occupy) الاحتجاجية.
وأهمية هذه المواضيع تكمن في أنها من أحد كبار مفكري القرن العشرين، ولازال بإمكانه تقديم شاهدته على القرن الواحد والعشرين، ألم يقل عن نفسه: “إنني عجوز بما يكفي لكي أتذكر ما حدث في الكساد الكبير الذي وقع في ثلاثينات القرن المنصرم..”. عدا عن ذلك فهو مفكر مثير للجدل وذو آراء حادة ومعارض لا يلين للسياسة الأمريكية الداخلية والخارجية، ويعد زعيم اليسار الأمريكي والملهم الفكري لليسار العالمي.
عنوان الكتاب “صناعة المستقبل” يستند إلى عبارة المستشار السابق للرئيس الأمريكي جورج بوش بعنوان “من أو ما الذي يصنع المستقبل؟” نشرت دون اسم صاحبها في أكتوبر 2004 بمقال في النيويورك تايمز. ومما جاء فيها: نحن إمبرطورية الآن، وعندما نتصرف فإننا نخلق واقعنا الخاص. وبينما أنت تدرس هذا الواقع -بحكمة كما ستفعل- سوف نتصرف من جديد، خالقين وقائع جديدة، والتي يمكنك دراستها أيضا، وهكذا ستسير الأمور. نحن الفاعلون في التاريخ... وأنتم، أنتم جميعاً، سوف تُتركون لمجرد دراسة ما نقوم به”.
هذه العبارة لم تكن عابرة.. بل نالت اهتمامًا واسعاً في أمريكا (قيل لاحقًا أن قائلها كارل روفي).. وأطلق عليها الجمعية “القائمة على الواقع” (reality-based community) وتشير إلى أن الرأي والحلول يجب أن تقوم على مشاهدات الواقع وليس على الإيمان أو الافتراضات أو الإيديولوجيا. ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، بأن هناك صراعاً شاملاً في المجتمع الأمريكي، بين المجتمع القائم على الواقع والآخر القائم على الإيمان. يقول مستشار بوش: إن الرجال مثلي كانوا في ما نطلق عليه الجمعية القائمة على الواقع، أي الأشخاص الذين “يؤمنون بأن الحلول تنبثق من دراستك الحكيمة للواقع الملموس.. ولكن لم تعد هذه الطريقة هي التي يعمل بها العالم بعد الآن”.. ملمحاً إلى أن كثيراً من القرارات تتخذ بناء على قناعات أو تصورات مسبقة وليست على الوقائع.
ومن هنا يتسأل تشومسكي في مقالة بعنوان: هل كانت الحرب هي الخيار الوحيد؟ وذلك بمناسبة مرور عشرة أعوام على هجوم الحادي عشر من سبتمبر. وكعادته يضع تشومسكي آراء صادمة صاعقة.. حيث ينقل قول المؤرخ العسكري البريطاني: “إن الجنود الأمريكان والبريطانيين يموتون في أفغانستان من أجل جعل هذا العالم أكثر خطورة للشعبين الأمريكي والبريطاني”. والأكثر إيلاماً في السخرية ما نقله عن مايكل شوير كبير المحللين في وكالة الاستخبارات الأمريكية الذي كتب عام 2004: أن القوات الأمريكية وسياستها تكملان تطرف الإسلاميين، شيء حاوله بن لادن ولم ينجح... لذا، يمكن الاستنتاج أن الولايات المتحدة الأمريكية تبقى الحليف الوحيد الذي لا غنى عنه لبن لادن.”.. وجدلياً لا تزال كذلك حتى بعد موته، على حد قول تشومسكي.
ويخلص تشومسكي إلى أنه كان يمكن تجنب الحرب، لأن أغلب حركات الجهاد التي انتقدت بشدة بن لادن، كان يمكن أن تتفرق وتضعف بعد الحادي عشر من سبتمبر لو تم تقديم المشتبه بهم إلى محاكمة دولية بتهمة “جريمة ضد الإنسانية”، لا سيما أن أغلب العالم العربي أدان بن لادن.
في مقال “أمريكا في تراجع” يوضح تشومسكي أن الإصابات الذاتية في الداخل الأمريكي ليس وليدة هذا العقد بل تمتد منذ السبعينات حين كان الاقتصاد السياسي الوطني يجتاز نقلة رئيسية منهياً حقبة ما أطلق عليه “العصر الذهبي” لرأسمالية الدولة. العنصران الرئيسان لذلك كانا: التحول المالي (financialization) أي انتقال تفضيل المستثمرين من الإنتاج الصناعي إلى المالي أو سيطرة السوق المالي على الصناعي. والثاني هو خروج الإنتاج، أي انتقال الإنتاج إلى بلد آخر أقل تكلفة وأقل حقوقاً للعمال.. ويخلص إلى أنه بواسطة تمزيق بقايا الديمقراطية السياسية، فإن المؤسسات المالية تضع الأساس لتنفيذ عمليات قاتلة تتقدم طالما أن ضحاياها مستعدين لتحمل المعاناة في صمت.
إنما في مقام آخر يؤكد تشومسكي على عدم الصمت: “التشريع التقدمي والرعاية الاجتماعية تم الحصول عليهما بالنضالات الشعبية، وليست هدايا من فوق. هذه النضالات تتبع دائرة من النجاح والتراجع. يجب أن تشن كل يوم، وليس فقط مرة واحدة كل أربع سنوات، ودائماً مع هدف خلق مجتمع ديمقراطي مستجيب وغير زائف، من صناديق الاقتراع إلى مكان العمل”.
“احتلوا المستقبل” هو عنوان الأطروحة الأخيرة للكتاب، وأساسها ما ألقاه في تجمع “احتلوا بوسطن” الاحتجاجي في أكتوبر الماضي، كمثيلتها حركة “احتلوا وول ستريت” التي ظهر على غرارها المئات في العالم.. يقول: إن هناك شعوراً بألا جدوى واليأس.. لقد كان العمال الذين فقدوا أعمالهم في أزمة الكساد الكبير في الثلاثينيات يتوقعون إمكانية حصولهم على العمل. أما اليوم، فإذا كنت تعمل في مصنع وفقدت عملك، ستعلم أن هذه الوظائف ذهبت إلى الأبد مع استمرار السياسية الحالية.. فالحكومة من أجل تقليل المخاطرة عادت مرة أخرى لإنقاذ شركات وول ستريت لأنها أكبر من أن تفلس، وأنقذت قادة الشركات لأنهم أكبر من أن يسجنوا!
الصورة القاتمة التي يرسمها تشومسكي يخففها بتفاؤل في نهاية خاتمة الكتاب، قائلاً: “أهم جانب مشوق في حركة “احتلوا” هو البناء المترابط الذي يتم في جميع الأنحاء. وإذا أريد لها الاستمرار والتوسع فإنها يمكن أن تقود إلى تكريس الجهود من أجل مجتمع أكثر إنسانية..
alhebib@yahoo.com