مما لا شك فيه أن تقدُّم ونجاح أُمَّة من الأمم مرهون بتطوير مهارات شبابها واستثمار عقولهم؛ فالشباب هم البيئة الخصبة لقيادة التغيير نحو الأفضل والتحسين المستمر، ولا يكون ذلك إلا بالاستفادة من تجارب الآخرين، وصقل ما لديهم من إنجازات وأفكار، وبلورة تلك الأفكار؛ لتكون ملائمة للتطبيق في بلدنا الكريم، مع مراعاة الأسس الدينية والاجتماعية والشخصية.
لقد حرصت حكومة المملكة العربية السعودية مشكورة على النهوض بالمواطنين، ودعم كل ما من شأنه الرقي بالمواطن السعودي على الصعيدَيْن المحلي والعالمي، وكان برنامج الابتعاث خير شاهد على ذلك، هذا البرنامج يُعتبر اللبنة الأساسية (الأهم) في تحقيق ذلك؛ فمنذ أن أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - بالبدء في ابتعاث أبنائه وبناته الطلبة للدراسة خارج المملكة بدأت الخطوة الأولى نحو التغيير للأفضل والتحسين المستمر. هذا الشيء بدأنا نلمسه في القطاعين العام والخاص على حد سواء، إضافة إلى جميع الخدمات المقدَّمة للمواطنين، ونطمع في المزيد مع مرور الزمن وعودة جميع المبتعثين.
نحن الآن مقبلون على المرحلة السابعة من هذا البرنامج المبارك - إن شاء الله - ولقد عملت وزارة التعليم العالي مجهودات جبارة، نشهد لها بذلك، لإنجاح هذا البرنامج منذ مراحله الأولى، والتميز في تقديم التسهيلات سنة بعد سنة للطلبة لتذليل كل صعوبة يمكن أن تواجه الطلبة أو مرافقيهم، بل الاستفادة من المراحل السابقة وتطوير برنامج الابتعاث مرحلة تلو الأخرى.
ما دفعني لكتابة هذه السطور هو الغيرة والخوف على قلة من المبتعثين، وليس ثلة منهم، بل قلة ممن يعودون للمملكة ومعهم الشهادة الجامعية فقط، وإن كان بعضهم (قلة من هؤلاء القلة) يعودون بكفي حنين؛ فلا أرضاً قطعوا ولا ظهراً أبقوا.
لقد تشرفتُ بالغداء مع صاحب السمو الملكي الأمير تركي الفيصل - حفظه الله - أثناء عمله سفيراً لخادم الحرمين الشريفين في الولايات المتحدة الأمريكية آن ذاك في مقر السفارة السعودية في واشنطن، وقال في كلمة ألقاها: «أبنائي الطلبة، إن المملكة العربية السعودية ابتعثتكم ليس فقط لتعودوا بشهادات بل لكي تعودوا بفكر جديد وعقول تسهم في دفع عجلة التقدم في المملكة..».
فهنا أرى أن قلة من المبتعثين - هداهم الله - لم يكونوا قدر المسؤولية التي أُلقيت عليهم، ومع هذا العدد الهائل - نسأل الله البركة - لا تستطيع الملحقيات الثقافية متابعة التفاصيل لكل طالب؛ فبذلك يصبح الطالب/ الطالبة مسؤولاً عن نفسه؛ فمع غياب رقابة الأهل وانفتاحية بيئة الدراسة، إضافة إلى عوامل سلبية أخرى تساهم في انحراف الطلبة عن مسارهم المأمول، يولد ذلك التأثير المباشر على التحصيل العلمي؛ فبذلك ينجرف الطلبة وراء بعض العادات والثقافات غير الجيدة.
في الواقع تُعتبر العقبة الأهم - في نظري - التي تحول دون اكتساب الطلاب الأهداف المرجوة هي تكدُّس الطلاب وقوة ارتباطهم ببعضهم بعضاً طيلة فترة الدراسة (فترة اللغة والفترة الأكاديمية)؛ فنجد الطلاب السعوديين يتشاركون السكن، وربما السيارة، وينظِّمون رحلاتهم وإجازاتهم؛ ليستمتعوا بها سوياً، إضافة إلى أنهم يتكدسون في بعض الصوف الدراسية بغرض التعاون والدراسة كمجموعة (Group Study)؛ ما يزيد عزلتهم عن الطلاب الآخرين؛ فماذا تكون المحصلة؟ لم يكن هناك تبادل للأفكار مع الثقافات المختلفة الأخرى، ولم يتناقش الطلاب مع زملائهم الأجانب فيما يتعلق بمشاريعهم الدراسية، ولم يحدث مزج لما لديهم من أفكار ومهارات؛ وعندما يرجع الطلبة الذين حصلوا على شهادات فقط، وينخرطون في سوق العمل والمجتمع، لا يضيفون له شيئاً جديداً، ويصبح كالطالب الذي أتمَّ دراسته الجامعية في إحدى الجامعات المحلية، بل إن الطالب خريج الجامعات المحلية ليس لديه ما هو سلبي غربي ليضيفه للمجتمع!
فهنا خسر برنامج الابتعاث أهم أهدافه، وحرم هذا الطالب المقصِّر غيره من الحصول على تلك الفرصة.
ولكن عزائي الوحيد أنهم قلة قليلة، ويمثلون نسبة قليلة من إجمالي المبتعثين، لكنها نسبة مؤثرة حقيقة ومخيبة للآمال.
إنني أهيب بجميع الطلبة المبتعثين الاستفادة من هذا البرنامج العظيم استفادة أكاديمية فكرية ثقافية، والبُعد عن كل ما من شأنه التقليل في التحصيل المأمول.
وارتباط الطلبة ببعضهم في الخارج وتماسكهم شيء مشرِّف ومشهود للطلبة السعوديين، لكن لا نجعل هذه الظاهرة أو الفطرة عقبة في تحقيق المبتغى؛ فالتزاور والسؤال عن الآخرين واللقاءات مطلوبة، لكن في حدودها، ولا تتجاوز ما يجعلها سلباً تؤثر في الطرفين.
التعاون الأكاديمي مطلوب، لكن مع الطلبة الأجانب أفضل، لأنه فرصة لمعرفة كيف يفكر العالم الخارجي.
المشاركة في الأندية الطلابية والأنشطة الجامعية اللاصفية المختلفة فرصة لفَهْم ثقافات، والاندماج مع الآخرين.
الصداقة مع الأجانب فرصة؛ ليتعلموا ماذا لديك (دينك - ثقافتك - وطنك).
وفي الختام أدعو جميع الطلبة إلى الاستفادة من تجارب من سبقوهم من إخوانهم وأخواتهم الطلاب، وذلك من خلال أندية الطلاب السعوديين، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والعمل يداً بيد لنهوض بلاد الحرمين الشريفين؛ لنكون رواداً في جميع الميادين.