لم يعد يعني أن تجد عشرة أشخاص أو أقل أو أكثر من ذلك، متقابلين برؤوس تتدلى فوق صدورهم، أنهم يجلسون خجلاً من أب أو جدّ أو كبير مقام، بل لأنهم ببساطة يمتلكون أجهزة اتصال ذكية، مما جعلهم ينغمسون في صمت، كأن على رؤوسهم الطير، دون أن يشعر الواحد منهم بالآخر!.
لا أحد ينكر براعة هذه الأجهزة وتسهيلها لكثير من الأمور، لا أحد ينكر أنها قرَّبت البعيد حتى جعلته على مقربة من أنفك، لكنها بعَّدت القريب حتى صار على بعد صحراء وبحر، بل على بعد محيط، وإلا ما معنى أن تجلس الأسرة، بينما الأب منهمك في حديث مع شلة الاستراحة، والأم تتجادل مع صديقاتها حول محلات الماركة التي أعلنت عن تخفيضات، بينما الولد يبتسم لمواقف صديقه الذي يدرس في ولاية بأمريكا، والبنت تدردش في أمور الموضة مع صديقاتها؟ ما معنى أن يتكبد أحدنا عناء ترتيب الموعد مع صديق، أو أصدقاء، وما أن يلتقوا حتى يتسلل أحدهم من الجلسة، عبر جواله الذكي، إلى بلاد بعيدة، ويتبعه الآخرون، ولا نكاد نسمع في نهاية اللقاء، سوى: فرصة سعيدة اللي شفناك!
لا ننكر أن هذه الأجهزة المذهلة ذات فضل رائع على البشرية، لكننا بحاجة إلى ما يسمى بترشيد الاستخدام، فلا يمكن أن ننشغل بأجهزتنا أمام أب، أو أمام أم، أو مع صديق سرق من وقته كي يجلس معنا، ولا يمكن أن ننشغل بأجهزتنا تلك في وقت مخصص للنوم مثلاً، أو للعمل في وظيفة، ولعل أكثر الحكايات طرافة، أن يكون أحد المذيعين في برنامجه على الهواء، ويقوم بالمحادثة المكتوبة في جواله، أو كتابة تغريدة في صفحته في تويتر، ويعود للابتسام أمام ضيفه في البرنامج أو أمام مشاهديه!.
يقول لي أحد الأصدقاء أنه حينما يذهب لمقابلة صديق أو أصدقاء، يأخذ معه جوالاً غبياً، أي لا يخدم سوى في الاتصال وإجابة الاتصال فحسب، لا يقدم خدمات الإنترنت وتصفح المواقع الاجتماعية وما شابه ذلك، كي لا ينشغل مع من سيبقى معه لساعة أو ساعتين، بهذه الخدمات المغرية أو المغوية.
ويقول آخر: إنه لم يكد يتخلص من آفة التدخين، حتى تورط بتدخين من نوع آخر، فلم تعد يده تتسلل إلى جيبه ليخرج علبة الدخان، بل لينتشل جهاز (الآيفون) ويتصفح ماذا أطلق من يتابعهم من تغريدات، أو الأصدقاء في (الفيس بوك) إلى درجة أنه يتذكّر حالة إشعال سيجارة، بحالة ضغط زر التصفح في هذه المواقع، ويسألني: كيف أتوقع عن إدمان هذه المواقع، والتواصل مع الآخرين في دردشاتهم؟
هو بالفعل إدمان العصر الجديد، وهو بالفعل بحاجة إلى إرادة في كبح رغبة التطلع في هذه الشاشة الصغيرة المغرية، لأنه بالفعل أفقد علاقاتنا الاجتماعية الحميمة طعمها، وسلب من الأسرة الصغيرة متعة جلساتها وأحاديثها اليومية، والنظر في أمورها، وأفقد قيمة اللقاء المباشر مع الآخرين طعمه وجماله، حتى وإن سهّل اللقاء اليومي مع آخرين بعيدين جسدياً، لكنهم أكثر حضوراً في تواصلهم المكتوب، في زمن الطأطأة الجديد!.