اليوم، سنقف مع قصة غريبة. إنها حقيقية، لكنها أعجب من الخيال، وهي قصة رجل اسمه غلاس.
«هيو غلاس» صائد وتاجر فراء عاش في القرن التاسع عشر في الغرب الأمريكي، وهي المنطقة المعروفة بالكاوبوي والصراعات مع الهنود الحمر، ولأن أمريكا كانت دولة ناشئة فلم يكن لديها مدن بالمعنى المعروف اليوم وإنما كان لديهم مستعمرات. في عام 1822م رأى غلاس ذات يوم إعلاناً في صحيفته المحلية نَشَرَه قائد عسكري يطلب مائة رجل ليساعدوه في رحلة صيد حيوانات لفرائها، ولأنه احتاج المال ولديه خبرة في مجال الصيد والفراء فقد انضم إليهم، ولما اكتمل عددهم انطلقوا تاركين المستعمرة تحت إمرة القائد والذي استراح من العسكرية قليلاً ليعمل في التجارة.
مضت عدة أشهر وهم يعملون باجتهاد، إلى أن أتى يوم كان الرجال يستريحون وتركهم غلاس ليصطاد حيواناً هرب منه وذلك بِنيّة أن يجعل منه طعاماً له ولرفاقه، وبينما هو يطارد الفريسة إذا به يُفاجئ دبة مع اثنين من أبنائها، والدب أخطر ما يكون عندما يحمي أبناءه خصوصاً إذا فُوجئ، فزمجرَ وحملَ على غلاس والذي حاول أن يبتدر بندقيته لكن أدركه الدب قبل ذلك وانقض عليه فحمله وألقاه أرضاً، فالتقط غلاس مُديته وأخذ يطعنه والدب يضرب غلاس بيده الهائلة ومخالبه الشبيهة بالسكاكين، وسمع أصحابه الصيحة فهرعوا لنجدته واستطاعوا قتل الدب، بعدها سقط غلاس مغشياً عليه بعد أن تقطَّع جسده، ولما علمَ القائد بما حصل التفت إلى رجاله وطلب اثنين يبقيان مع غلاس، فتطوع رجلان أحدهما شاب في السابعة عشرة من عمره وطلبا أن يُوكل لهما القائد هذه المهمة، فأوصاهما أن يبقيا معه إلى أن يموت ثم يدفناه فأجاباه إلى ذلك، وقد عزما أن يغدرا، فأخذ القائد رجاله ومضى مواصلاً الرحلة، ولما ابتعدوا هجم الرجلان على غلاس الغائب عن وعيه فسرقا أسلحته وأمتعته وفرا، ولما وصلا للفريق زعما أن غلاس قد مات وأنهما دفناه، وهما لا يشكان أنه لا أمل له في الحياة بسبب شناعة جروحه.
اســتيقــظ غــــلاس من غيبوبته فإذا به في منطقة مقفرة ولا مال لديه ولا متاع ولا أسلحة، ونظر إلى نفسـه فرأى ساقاً كسيرة وجروحاً قريحة، وتمزق جذعه حتى خرجت بعض أضلاعه من ظهره، المكان مليء بالأعداء والوحوش الكاسرة، وأقرب مستعمرة كانت على بعد 320 كيلاً. يا له من موقف يبعث على القنوط التام!
لكن غلاس عزم ألا يموت في هذا المكان العقيم الموحش، فاستجمع همته ونوى أن يكافح ويعيش، فأمسك ساقه ونَصَبَها، والتحف الكفن الذي ألقاه عليه الغادران وحاول المشي فلم يستطع، فأخذ يزحف. جعل غلاس يزحف ويزحف ولا طيف إنسان حوله، ولما خاف من أن تضربه الغرغرينا بسبب جروحه الملوثة استلقى على جذع شجرة متعفنة وترك الديدان تأكل الأنسجة الميتة، ولما فرغت واصل زحفه الشاق، ولا طعام له إلا ما يجده هنا وهناك من التوت البري وجذور النبات، إلا مرة واحدة وجد فيها ذئبين يأكلان ثوراً قد قتلاه فهجم عليهما (!) حتى هربا، وأكل من لحم الفريسة حتى امتلأ، ثم أكمل الزحف الأليم.
بعد 6 أسابيع من الزحف وصل إلى نهر، فصنع قارباً بدائياً من أغصان الشجر وخاض غمار النهر، وبعد فترة وصل إلى مكان فيه أناس ضيّفوه وداووا جروحه ثم زودوه بالسلاح والطعام، وبعد أن تعافى انطلق ناوياً العثور على الرجلين اللذين خاناه، وبعد فترة من تتبع أثرهما وَجَدَ أوّلهما وكان الأصغر، وبعد قليل من التفكير عزم أن يتركه لحداثة سنه، ومضى يبحث عن الآخر، ولما وجده علم أنه التحق بالجيش الأمريكي الوليد، فتركه لئلا يقتلوه به، وعاد لحياته السابقة، يصيد ويبيع.
توفي غلاس عام 1833 عن عمر 53 سنة، لكن لم يمُت إلا بعد أن ضرب لنا مثالاً مدهشاً في الصبر والهمة وعدم اليأس حتى في أظلم الظروف وأشق المواقف.