* أمام الأحداث الجسام تبدأ الدول بمراجعة سياستها، وتبدي شيئاً من التنازل، أو الابتعاد عن منطق (الأنا) التي تنتهجها أحياناً بعض الدول ذات الكيان الصغير، أو القوة المحدودة، ولا يمكن أن نتصوّر قيام اتحادات، أو كيانات، أو أحلاف ما لم تكن هناك أرضية مشتركة، وتجانس بين الشعوب، سواء كان ذلك بالجنس، أو اللغة، أو التاريخ، أو الدين. ولو افترضنا خلاف ذلك لعدّ من الحالات النادرة في التاريخ السياسي والتي لا يمكن لها الصمود عقود طويلة.

* الدول كالأفراد تمر بمرحلة مراهقة، تصحبها مغامرات غير محسوبة، لكنها تؤوب إلى رشدها في يوم من الأيام، حينما تستحكم الحلقات، وتشتد عليها وطأة الأزمات، ليس هذا فحسب، بل نجد داخل الكيان الواحد، والمجتمع الصغير حالات استبداد، أو إقصاء، أو تفرّد بالقرار، واستئثار بالموارد، لكنها سرعان ما تتلاشى هذه الظواهر حينما يكون العقل والضمير والمصلحة الوطنية فوق كل اعتبار.

* في العالم من حولنا اتحادات، وأحلاف، وروابط، منها ما هو سياسي، ومنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو ديني، بعضها معلن، والبعض الآخر خلاف ذلك، وهو الأخطر. وشيجة واحدة، أو وشائج متعددة كفيلة ببناء جسور متينة بين الدول والمجتمعات والشعوب.

* في الوقت الراهن انتاب سكان الخليج العربي شيء من القلق، وسيطرت عليهم المخاوف والهواجس من امتداد رياح التغيير التي هبت على بعض الأقاليم العربية، وأطاحت ببعض أنظمتها، وأمسى البعض على جرف هار، لكن ذلك الهاجس تبدد أمام الحراك السياسي الموحّد، وتطابق الرؤى السياسية بين دول مجلس التعاون الخليجي، وتبنيهم منهجاً إصلاحياً يسير على مسافات متقاربة، وخطوات متزنة مدروسة، رغم أنه لا يزال أمامهم تحديــات كثيـرة، ومخــاطر جمـة، تتطلب إرادة سياسية قوية وحازمة، وقوة إدراك من المجتمع حول ما يحيط به من مؤامرات.

* الاتحاد الخليجي الذي دعا إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز يعد خياراً إستراتيجياً لا محيد عنه لدول المنطقة، وهو الورقة الوحيدة الرابحة، حتى ولو أظهرت بعض الدول قدرتها على احتواء المواقف ومقاومة التغيير. والإصلاحات التي ينهض بها أفراد محدودين قد تستنزف في يوم من الأيام، ما لم تكن شاملة، أو مبنية على أسس ثابتة، وقواعد متينة.

* الجميع تأمل وتدبّر في الخطاب التاريخي خادم الحرمين الشريفين، وهو يدعو إلى هذا الاتحاد في مرحلة من أدق المراحل التي تمر بها المنطقة حينما قال بصراحته المعهودة: (لقد علّمنا التاريخ والتجارب ألا نقف عند واقعنا.... ومن يفعل ذلك سيجد نفسه في آخر القافلة، وهذا أمرٌ لا نقبله جميعاً لأوطاننا واستقرارنا وأمتنا....) دعوة صادقة من إنسان صادق. دعوة تحمل أبعاداً كثيرة، وطموحات كبيرة، فهل ستتحقق؟ الأمل معقودٌ على عزيمة شعوب هذه المنطقة، فهم الرهان الذي يراهن على وعيهم، وانتماؤهم لأوطانهم، مهما كانت الظروف.