عندما يقال لقي فلان الأمرين فلا ينصرف تفكيري إلا أن أحد الأمرين هو الفقر، فأي شيء بالله عليكم أمر, أقسى على النفس من الفقر فالأمران مهما قيل لا شك أنهما (الفقر) و (الصبر) فالفقر، قرين الثالوث: الجوع والمرض والجهل، وهو عدو الإنسان الأول يسلمه للمعاناة، وينغص عليه حياته،
يملؤها بالآلام، ويلونها بلون الحزن الكئيب.
إن الفقر - للأسف - يغطي مساحات شاسعة من الكرة الأرضية، ويتجرع مرارته ملايين البشر في أنحاء المعمورة، فعالم اليوم العجيب الغريب رغم تشدقه بالرحمة وحقوق الإنسان، يعيش تناقضا عجيبا، فبينما يموت كثير من الناس من الجوع، تقتل أمراض التخمة عددا كبيرا، ووجود الفقر في هذا الزمن يكاد يكون أمراً غير منطقي فإن العالم قد تضاعفت ثرواته مرات عديدة لو قارناه بعصور مضت.
ان الإنسان ليتعجب من وجود الفقر بهذه الطريقة في هذا العصر، عصر (غزو الفضاء) والوصول إلى أبعد المجالات، عصر الإنترنت والذرة، والمعالجة الجينية، وإن الإنسان ليتساءل كيف بلغ الإنسان هذه الدرجة العالية من العلم وتلك القدرة الفائقة في تسخير عناصر الكون وعجز عن معالجة الفقر؟ كيف يصرف الإنسان مليارات لا تحسب على غزو الفضاء والوصول إلى الكواكب، وأخوه الإنسان يموت جوعا ومرضا، أما كان الأجدر أن تصرف تلك المليارات في إشباع الجياع وعلاج المرضى وإيواء المشردين.
واني عندما أفكر في الأمر بعمق يصل بي الحال إلى حد (الريبة) في مقاصد الدول التي تدعي أنها تحاول محاربة الفقر في العالم، فكيف وهي تملك كل تلك (الأدوات) وكل تلك (المليارات) تعجز عن محاربة الفقر؟ بل تعجز من منعه من الازدياد، وهل أدخل في قوله تعالى (إنّ بَعض الظَنّ إِثْم) الحجرات 12، إذا ظننت بتلك الدول الكبرى السوء؟ لا أظن فالدلائل أوضح من أن تخفى.
ألم تثقل تلك الدول الكبرى كاهل الدول الفقيرة بالديون ذات الفوائد الربوية الباهظة حتى أن الفوائد بعد سنوات قليلة تصبح أكثر من أصل القرض نفسه؟ ألم تعمل تلك الدول الكبرى على إشعال الفتن والحروب في تلك الدول الفقيرة، لتشغلها عن تنمية مواردها، وتبيع للأطراف المتحاربة الأسلحة بمليارات الدولارات، وإن الريبة لتصل بي لحد الاعتقاد أن الدول المتقدمة حريصة على بقاء الفقر في العالم، وأن لها مصالح حقيقية في ذلك.
وإذا كان الفقر قد نشر لواءه في كثير من الدول فالمنطق والعقل يقول إنه ما كان يجب أن يكون له منازل ولا ترفع له راية في بلاد الإسلام فدين الإسلام دين عز وإباء وأنفة، وهو دائماً يريد أتباعه أعزاء موفوري الكرامة، مرفوعي الرؤوس، قال تعالى: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) المنافقون 8، والفقر فيه انكسار، فكيف يجتمع الإسلام والفقر في بلد واحد.
ونحن لا نطلب مستحيلاً، ولا نتحدث عن خيال، عندما نقول إن كل مسلم يجب أن يكون غنياً عزيز النفس مرفوع الرأس بل إن غير ذلك هو المخالف لمعطيات الواقع فالدول العربية والإسلامية تملك من الإمكانات المادية ما أن إذا استغلت الاستغلال الصحيح ووزعت التوزيع العادل لن نجد فقيراً واحداً في تلك الدول، إن لم نقل إننا سنجد كل من يسكن تلك الدول من الموسرين.
إن الأمة الإسلامية تملك (إرثاً) غنياً من (الحلول) التي أثبتت قدرتها على معالجة مشكلة الفقر، وتلك الحلول مستمدة من الكتاب والسنة ما يجعلها صالحة لكل زمان ومكان، كما أنه تم تطبيقها عمليا في عصور الإسلام الأولى وقد أثبتت نجاحاً منقطع المثيل.
إن الزكاة تعد حلاً عبقرياً في معالجة الفقر جنباً إلى جنب مع عدالة توزيع الدخول فلو أن كل غني أخرج زكاة ماله ووزعت على مصارفها التي حددها القرآن بقوله إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ التوبة 59.
فلو أن ذلك حدث لما بقي في العالم مسلم فقير ولكن هل يخرج القادرون زكواتهم كاملة؟ وهل توزع تلك الزكوات على أهلها؟ بل هل يستفاد منها الاستفادة المثلى؟ فلو أن تلك الزكوات استخدمت في إقامة مشاريع استثمارية مزارع أو مصانع أو غيرها يجتمع عليها عدد من الفقراء لكان أجدر وأجدى بدلا أن توزع على رؤوس الأفراد ففي الحالة السابقة سيبقى الفقير فقيرا ينتظر الزكاة كل عام، أما في الحالة الأولى فإنه هو نفسه سيصبح بعد حين من دافعي الزكاة، كما أن هذا يزيد الدخل القومي وتعم فائدته كل الناس، وكما قيل (لا تعطني سمكة ولكن علمني كيف أصطاد).
وقد نادينا كثيراً الدول لتأسيس بنوك للفقراء تحكمها قوانين تضمن المنافع كلها أو معظمها لهؤلاء الذين هم شريحة كبيرة مهمة في مجتمعات تستحق المساعدة وهو حق مهم لهؤلاء يجب أن تؤديه الدول والأغنياء فيها، ولو صلحت النية وقويت الإرادة لتم القضاء على الفقر ولتحول معظم الفقراء من حالة الفقر المذل إلى ساحة العيش الكريم.
وحتى إذا لم تقم بنوك للفقراء، فيجب أن تفرض الدول العربية والإسلامية على البنوك تخصيص نسبة صغيرة من أرباحها السنوية لتمويل المشاريع الصغيرة الخاصة بالفقراء تجنب لهذا الغرض، والمعروف أن البنوك في مختلف دول العالم لا تقرض إلا بضمان وهذا يعني أن القروض تعطى للأغنياء أصحاب الشركات الكبرى فيزدادون غنى بينما الفقراء يزدادون فقرا، ولنجاح إقراض الفقراء لإقامة مشاريع صغيرة يجب أن يقوم (صندوق ضمان) أي جهة تؤمن هذه المشاريع الصغيرة ضد الفشل فإذا خسرت عوض صندوق التأمين هذه الخسائر وبذلك تقبل المصارف على إقراض الفقراء من غير خوف.
علينا أن ندرك أن استقرار الدول سياسياً يعتمد بشكل رئيس على استقرارها الاقتصادي والاجتماعي ورفاه شعوبها، ومن هنا فإن الحياة الكريمة تمثل للشعوب حجر الأساس حيث يجب أن يتوفر للفرد المسكن والعلاج والتعليم والضمان الاجتماعي، بما يضمن الحد الأدنى من الحياة الهانئة للإنسان في ظل دول تحميه وتدافع عن حقوقه، في ظل نظام العولمة الذي لا يعرف الرحمة التي زاد في عهدها عدد الفقراء والعاطلين عن العمل وذهبت الثروات إلى فئة قليلة تحكمت في مصائر الناس فأصبحت هناك فئة ليست ثرية فقط بل إنها فاحشة الثراء، بينما هناك شريحة كبيرة تعيش أدنى مستويات الفقر ومن هذا التناقض والفروقات الشاسعة يتولد عدم الاستقرار ويبدأ الخطر!!
إن الدول العربية التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 300 مليون نسمة منهم أكثر من 75 مليون تحت خط الفقر وحوالي 15 مليون نسمة يعانون من سوء التغذية يجب أن يكون في مقدمة أهدافها علاج الفقر وانتشال تلك الفئة من الهوة السحيقة التي يعيشون فيها، ولهذا الغرض لا بد للدول العربية أن تدشن مشاريع طموحة من أجل تأمين الحد الأدنى لهؤلاء فهم يستحقون العناية والنظرة العادلة.
إن الإسلام دين الرحمة والعدل أكد على التكافل الاجتماعي بين أفراد مجتمعاته وأكد على وجوب الوقوف إلى جانب المحتاجين والفقراء وأصحاب العوز والحاجة بنصوص قطعية قال تعالى: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ البقرة 177، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به) رواه البزاز والطبراني عن أنس.
ويبقى القول إن الدول العربية والإسلامية يجب عليها أن تعيد النظر في خططها الرامية لاجتثاث الفقر، فمشكلة الفقر حجمها أكبر وآثارها ستصبح مدمرة على الاقتصاد والمجتمعات بل على الأنظمة السياسية واستقرارها إذا لم تنهض الدول بمسئولياتها بكل أجهزتها المسئولة عن الفقراء والمساكين وما أكثرها.
ولا شك أن الفقر باتساع رقعته وعدد الذين يعيشون تحت ضنكه، وتزايد أعداد الذين يدخلون دهاليزه المظلمة كل يوم، يحتاج إلى مؤسسات فاعلة قوية، بعيدة عن البيروقراطية، يعمل بها رجال ونساء على درجة عالية من القدرة والإيمان بالقضية.
ويجب أن تعلم الحكومات أن محاربة الفقر ليس مسألة اقتصادية فحسب بل هو مسألة إنسانية وسياسية وأمنية، فليس أخطر على النسيج الاجتماعي في المجتمع من انقسامه إلى فقراء جدا وأغنياء جدا وليس أخطر على الدول واستقرارها من تفشي الفقر والجوع فالفقر يعرض الدول والعباد لخطر عظيم وكما قيل فإن (الجوع كافر)، فماذا ننتظر من كافر إلا الإفساد في الأرض، ولمعرفته لخطر الجوع قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (لو كان الفقر رجلاً لقتلته).
إن الفقر ليس انكساراً ومعاناة قاسية فقط، ولكنه أيضاً يحدث شروخاً خطيرة في النسيج الاجتماعي، وهي شروخ تصيب بناء الدولة بالتصدع وتنذر بانهيارها، إن من مسئوليات القادة والحكماء والأثرياء... إلخ الالتفاف إلى مشكلة الفقر وعلاجها بحزم، وليعلموا أن الفقر ليس رجلاً ولكنه مرض إذا أصاب جسد بلد ما فأقام عليها مأتماً وعويلا.
رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الإستراتيجية
dreidaljhani@hotmail.com