** لا جدل في حجم التغير الثقافي الذي مررنا به خلال ثلاثة عقود ممتلئةٍ بضجيج حجب الرؤية المجردة، ولم يكن واحدُنا قادرًا على قراءة المسافاتِ الحقيقية، ولا تقدير الأبعادِ والأحجام بأشكالها الطبعية؛ فعرفنا من جُهل، وقاد من قيد، وتسنّم من توارى، واختلطت الأفهام والمفاهيم، ولبس بعضُنا لباسًا ليس له؛ فبدا الثوبُ أكبر من قياسات صاحبه، وبات الظلُّ موطنَ المتفرجين، وفيهم من هو أقدر وأجدر من الساكنين تحت الشمس.
** المعادلة تتبدل اليوم بشكلٍ متسارعٍ؛ فالواجهةُ اتسعت، والمهمشون عادوا، والمساحات تكافأت بين المنابر الرسمية والشعبية، والتقليدية والرقمية، ولم يعد أحدٌ يستجدي ظهورًا، ولا منعَ يطال كاتبًا أو كتابًا، وهو ما آذنَ بحركةٍ ثقافيةٍ توشك على قلب المعادلة النمطية التي سادت وتوشك أن تبيد.
** وفي حقبةٍ تؤذن بغروب غاب علماءُ فلم ندرِ عنهم، ودُفنت بحوثٌ فلم نأبه بها، وتراجع التعليم فما زدنا على إضافةِ انكفاء، وتطور العالم من حولنا فما وعينا غير مزيد ارتماء، وصدقنا لغة التصنيف والتصنيم، وصدرنا وسائط الوعظ ووسطاء الإنشاء، ونسينا الثقافة الجادة؛ فكانت الروايةُ الغواية والشعرُ الشعير والمنبرُ العائم والحكّاؤون الممثلون مركز التحكم، وما كان لمثلهم شأنٌ قَبْليٌ أو استشرافٌ بَعْدي.
** لن نعود إلى ماقبل العام “الثمانيني” مثلما لن ننطلق إلى العالم “الألفيني” بمجرد رصد ظاهرة التغير القادمة لكننا لا نبدو مستعدين لنقلةٍ لن تأخذ طويل وقت حتى تتبدى ملامحُها وتفرضَ على الساحة شخوصًا جديدةً وطرحًا مختلفا واقتناعاتٍ كانت مسجاةً بانتظار الدفن، والتخطيط يَفترض أن يتهيأ المجتمع لرحلة إعادة التوازن لبنيته وعدم الارتهان لمعلقات الوهم التي رفعت الصوت وامتلكت الصيت وأغلقت منافذ القرار.
** نسير أحيانًا ببركةِ التهوين والتهويم؛ فما سيأتي سيأتي - كما يقول المثل الكونيّ - لكن حقَّ الأجيال القادمة يوجب إعدادًا واستعدادًا يتواءم مع ماهو متوقعٌ؛ كيلا تتشابه مرحلةٌ مضت بمرحلة تجيء؛ فيكون التحولُ عاصفًا غير عاصم.
** ومع هذا وأمامه ووراءه يظل التخوف الأكبر أن ترث تياراتٌ ذاكرةَ اضطهادها أو إلغائها أو حتى تحجيمها حين تجد نفسها قادرةً على الرد بالمثل؛ فنبقى وسط دوائر متداخلةٍ من الصراعات المؤدلجة المتكئة على سلطوية الانتماء السياسي، والإسلامويون - مثل سواهم - مطالبون بوعي التبدلات التي قد تطال مشروعهم ومُشرعيهم؛ فالمكتوون بإقصائيتهم والمتضررون من استعداءاتهم واستعلاءاتهم - قد يجدون في غد التغيير ما يجعلهم إقصائيين واستعدائيين واستعلائيين حين يأذن لهم الظرف السياسي الذي يحمل نذر تكرار تجربة ما قبل الثمانينيات حين كان الإسلامويون بلا نافذة ودون متنفذين، والدَّين يُرد أو يسترد، وليت من يلهوننا بشعاراتهم يوفرون أوتارًا في حناجرهم لقراءة ما سيكون عليه الحال ولو بعد بضعة أعوام.
** الأيام دول.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon