من يراقب حركة نمو التعليم الأهلي في المملكة وخاصة في المدن الرئيسية فسيري حركة عمران كبيرة لمجمعات تعليمية أهلية في كل أنحاء المدن الكبرى مما يعني أن هناك طلبا اجتماعيا متزايدا على هذا النوع من التعليم سمح بتنامي ظاهرة المدارس الأهلية إضافة إلى الدعم الحكومي الذي تسميه الوزارة سخيا ويرى أصحاب (البزنس انه محدود). وليس أدل على هذا النمو مما أشارت إليه دراسة
أعدها بنك المعلومات في غرفة الرياض ونشرت قبل فترة وجيزة وأشارت إلى أن المدارس الأهلية تمثل 32% من مجمل مدارس مدينة الرياض.
وتسعى الوزارة إلى زيادة حجم هذا التعليم ليمثل أكثر من 40% من مجمل التعليم المقدم في المملكة.
وفي الحق ففي كل بلدان العالم يتواجد على مستوى التعليم العام (ولا نشمل بحديثنا هنا التعليم الجامعي) أنواعا متعددة من التعليم العام مثل الحكومي والأهلي والديني والعالمي والمتخصص (مدارس جاليات محددة) وهو الأمر الذي يتيح للمواطنين خيارات متعددة تتفق مع توجهاتهم وتعليمهم وقدراتهم الاقتصادية ومستوياتهم الثقافية.
طبعاحين نتحدث عن التعليم الأهلي في المملكة فنحن تحديدا نقصد المدارس السعودية الخاصة (ولا يشمل ذلك المدارس العالمية أوالتابعة لبعض الجاليات مثل الأمريكية والبريطانية والهندية الخ) وهذه المدارس الأهلية تشرف عليها وزارة التربية والتعليم وتجبرها على تقديم مناهجها الرسمية المعتمدة لكنها تسمح لها بتقديم بعض المواد التي لا تستطيع الوزارة تقديمها في مدارسها لأسباب سياسية وثقافية نعرفها جميعا مثل تقديم اللغة الانجليزية في كافة المراحل وتقديم بعض الأنشطة اللامنهجية والترفيهية التي لا يسمح التوجه الرسمي للوزارة بتقديمها.
إذن ما هي الاختلافات الجوهرية التي دفعت بالأهالي ومعظمهم من العاملين في قطاعات التعليم نفسها سواء في الوزارة أو الجامعات إلى تفضيل هذا النوع من التعليم لأبنائهم؟
في بحث قديم قمت بنشره قبل 10 سنوات (تحتاج معلوماته إلى تحديث ولا يمكن الاعتماد عليها علميا الآن لكنها تؤخذ كمؤشر) سألت الأهالي ما الذي يدفعكم إلى وضع أبنائكم في المدارس الأهلية ودفع كل هذه الأقساط التي أوضحت الدراسات أنها تلتهم ما لا يقل عن 30% من دخل العائلة المتوسطة. أجابت معظم مفردات العينة بأنها تعتقد (لا حظ) (تعتقد) ولا تملك أدلة علمية) على أن المدارس الأهلية تقدم تعليما أفضل وأن معلميها أفضل وفصولها أقل ومساحاتها الخارجية أكبر واحترامها للطالب أكثر وخوفها من ولي الأمر أكثر! أخذت إجابات الأهالي حاولت معرفة مدى مصداقيتها وخاصة في ما يتعلق بأهم ركائز التعليم وهي المعلم فهل حقا يتفوق معلمو المدارس الأهلية في كفاياتهم التعليمية والعلمية والشخصية على معلمي المدارس الحكومية مستخدمة مقاييس مستقلة استخدمت في دراسات سابقة لقياس هذه الكفايات فماذا كانت النتائج؟
ظهر أن معلمي ومعلمات المدارس الحكومية تفوقوا في معظم كفاياتهم على معلمي الأهلية الذين بزوهم فقط في مستوى كفاية المهارات الشخصية! المباني لا نحتاج أن نتحدث عنها ففيما عدا بعض المدارس الأهلية المشهورة في المدن الكبرى تقع معظم الأهلية في مبان مستأجرة لم تعد لأن تكون مبان تعليمية ويكفي أن نعرف أن دراسة غرفة الرياض التي أشرت إليها آنفا أوضحت أن أكثر من 50% من هذه المدارس لم يتجاوز رأس مالها عند إنشائها مائة ألف ريال!
حقائق لصالح التعليم الحكومي الذي يسعى لتحسين بنيته التحتية وتدريب معلميه فلماذا نفضل الهرب منه؟ لأن الحقائق ترينا على أرض الواقع أن (الشق أكبر من الرقعة) كما يقولون في التعليم الحكومي. الانفجار السكاني يلتهم كل مخصصات التعليم التي تحاول مسابقة الزمن وفتح مدارس في كل بقعة من المملكة تحقيقا لشروط التعليم المجاني والإلزامي لجميع السكان لكن يصعب عليها أن تركز على نوعية هذا التعليم وخاصة في المناطق البعيدة عن العين الحكومية أو الصحفية من مثل عدد الطلاب في الفصل الواحد أو إجبار المعلمين الذين يتمتعون بوظيفة حكومية على تعامل ألطف وأكثر (ديمقراطية) مع طلابهم أو تقديم أنشطة لا منهجية لا تخضع لكل بيروقراطية الوزارة وتوجهاتها المحافظة ونزعات العاملين فيها ومديري مناطقها الذين يحاولون أن يكونوا حكوميين أكثر من الحكومة!
وهكذا ومع ارتفاع مستوى التعليم بين السكان وظهور طبقة متعلمة تتوافر لديها المادة نوعا ما ولديها توقعات مختلفة من التعليم لا يلبيها نوعية التعليم الحكومي المجاني المتاح حاليا اتجهت هذه الشريحة الاجتماعية إلى وضع أبنائها في مدارس التعليم الأهلي فماذا حدث؟ توسع تجاري لا يخضع لأية معايير علمية وتجار دخلوا السوق بغية تحقيق أعلى وأسرع المكاسب المادية على حساب كل قاعدة تعليمية فظهرت كل هذه الأقبية والمجمعات التي تسمي نفسها بالمدارس وهي لا تقدم تعليما يعتد به. معظم المدارس الأهلية الحالية (فيما عدا قلة معروفة بالاسم) تعاني من ضعف شديد في ما تقدمه من تعليم لقبولها من يقبل العمل معها بحكم ضعف رواتبها وكثرة الواجبات المتوقعة من معلميها وقلة التدريب المتاح ومحاولة إرضاء أولياء الأمور الذين يعتقدون أن قبول كل سلوك خارج من أبنائهم وعدم الشدة في ضبطهم هو عين الديمقراطية فطالما أنني أدفع أقساط المدارس فعليها تحمل عدم التزام الطالب بقوانين الفصل أو المدرسة، كما لا يحتاج المعلم للتأكد من المهارات العلمية أو الرياضية أو اللغوية لأي طالب ففي كل الأحوال لا يستطيع المعلم إنقاص حتى نصف درجة من أية مادة وإلا سيجد الأهل فوق رأس المدير والمعلم حتى تعديل الدرجة بغض النظر عماذا تعلم الطالب.
هذه الثقافة المسطحة للتعليم من قبل الأهالي وعدم وجود رقابة للوزارة على المخرجات الفعلية للمدارس الأهلية (وليس فقط اشتراطات المباني والأجهزة) وتحديد ثقافة الربح المادي بين المستثمرين في قطاع التعليم للاستفادة من المخصصات المالية المتاحة أوقع هذا القطاع في شرك كل أمراض القطاع الخاص من اعتماد الربحية كمقياس بغض النظر عن الغش في المنتج (ضعف الطالب في مهاراته الأساسية غش واضح في منتج هذه المدارس يشابه الغش التجاري ويتفوق عليه) وكجزء من آلية العمل التجاري يتم التغاضي عن كل المعايير التربوية لاستقطاب طلاب أكثر وتقديم تسهيلات أكبر تشجع (مجتمع التواكل والتراخي) حتى يطمئن الأهالي على حصول أبنائهم على علامات كاملة في نهاية العام لكنها لن تمكنهم بأية حال من اجتياز لأبسط امتحان للقدرات ولن تدخلهم الجامعات وسيكونون مأساة أخرى تحتاج إلى إعادة تأهيل بعد نهاية ثانوية متسيبة (فيما عدا قلة قليلة من المدارس الأهلية التي تعرف نفسها: أؤكد ذلك) فماذا نفعل أمام هذه الكارثة التي بدأت تطرق أبواب الجامعات منذ سنوات من خلال خريجي الثانويات؟
مرة أخرى: رفع يد الوزارة التي هي مثقلة بأعبائها الحالية إضافة إلى أنها هي الأخرى تعاني ضعفا كبيرا في مخرجات مدارسها الحكومية وتسليم متابعة واعتماد هذه المدارس الأهلية لجمعيات اعتماد علمية خارجية (خارج البلاد أو خارج الوزارة) تعتمد معايير عالمية (وليس محلية) للمقارنة في كل مكونات وجود هذه المدارس من إمكانات مادية وبشرية ومخرجات تعليمية وخدمة مجتمعية الخ بحيث يطرد من السوق من لا يستطيع الالتزام بهذه المعايير العالمية وإذا حدث ذلك فأجزم لكم أنه سيرسب في السنوات الأولى لاعتماد هذا النظام 90% من الطلاب في الثانوية.