عندما غزا صدام الكويت قبل عشرين سنة، وجثم على حدود المملكة، انقسم السعوديون إلى قسمين: أهل الوطن، غير المؤدلجين، نادوا بدفع هذا الغول المتوحش الجاثم على حدودنا بأية طريقة، وليس ثمة طريقة إلا الاستعانة بالقوات الأجنبية؛ أما (الحركيون)، وتحديداً تيارا الإخوان المسلمين والسروريين، فوجدوها آنذاك فرصة لا تعوّض لهز الكيان وتقويض استقرار البلاد أملاً في القفز إلى كرسي السلطة؛ فاعتبروا أن الاستعانة بالقوات الأجنبية في كبح جماح صدام لا يُجيزها الإسلام، فلا يجوز الاستعانة بالكافر مهما كانت المبررات، وأقاموا الدنيا على قرار الاستعانة، وسفهوا بفتوى هيئة كبار العلماء بجواز الاستعانة بالقوات الأجنبية، واستهجنوها، وعادوا إلى كتب الفقه، ونقلوا منها بطريقة (انتقائية) مقولات تُحرّم مثل هذه الممارسة تحريماً قطعياً؛ ثم روّجوا لمقولة إن القوات الأجنبية جاءت لتحتل بلادنا وتبقى فيها، وسخّروا (شريط الكاسيت) في ذلك الوقت لخدمة مشروعهم التحريضي دون أن يُقدّموا حججاً إلا الجعجعة والاستقراء المفبرك للتاريخ واللعب على العواطف. وعن وعي أو دون وعي وقف هؤلاء مع صدام في خندق واحد.
الآن وبعد مرور عقدين من الزمن على غزو الكويت، ظهر بوضوح أن كل ما كان يُحذّر منه أولئك الساسة الذين لبسوا لباس الوعاظ والفقهاء كان محض تدليس وافتراء، بل وهراء..
جاءت القوات الأجنبية، وحرَّرت الكويت، وخرجت من المملكة، ودُحرَ صدام، ثم طُرِد؛ وسقطت رهانات هؤلاء المرجفين؛ ورغم ذلك كله ما زال بعض هؤلاء الحركيين ممن كانوا يزلزلون أعواد المنابر آنذاك تحريضاً ووعيداً، (نجوماً) لدى العامة رغم سقوطهم وخسران رهاناتهم، وانكشافهم..
وعندما تُناقشُ أحداً ممن ما زالوا يُصفقون لهم عن مواقفهم (المعيبة) تلك يجيبون بمنتهى البرود: اجتهدَوا وأخطأوا! الآن عادت حليمة إلى عادتها القديمة؛ فمثلما راهنوا في الماضي على صدام، وخرجوا من رهاناتهم بخفي حنين، ها هم يراهنون على رياح الربيع العربي كما يصفونها، ويحاولون أن يستثمروها بذات النهج والأسلوب الذي اتبعوه في رهاناتهم على صدام وغزو الكويت، ويجدون من يصفق لهم، وكأن شيئاً لم يتغيّر.
أعرف أن الإنسان إذا راهن مثل هذه الرهانات وخسر يُصبح مستقبله مُتعلقاً بسقوط من راهن على سقوطه، وطالما أنه خسر كل شيء ولم يعد لديه شيء يخسره فلماذا يتراجع ويعود؟ سوف يُمعن ويستمر ويُصر إذا كان الناس سيدمحون زلاته، وأراه بصراحة معذوراً.. أما أولئك الذين يُهلّلون لهم، ويرددون مقولاتهم، ويرفعون من مقامهم وأطروحاتهم، وكأنهم لا ينطقون عن الهوى، فهؤلاء هم (الملومون)؛ وهذا ما يجعلنا نضرب بهم مثالاً يؤكّد عدم جاهزيتنا للديمقراطية؛ ففي كل بلاد العالم حين يُراهن السياسي على قضية ويفشل يسقط ويختفي تماماً عن الساحة، أما في بلادنا فهم يراهنون ويخسرون، ثم يُراهنون ويخسرون، ولا يجدون حتى من يحاسبهم شعبياً؛ فكيف يمكن لنا أن نعتبر أن الإنسان في بلادنا لديه من الوعي السياسي ما يُؤهله لاختيار ساسته أو ممثليه في البرلمان وهو يُلدغ من ذات الجحر أكثر من مرة ولا يتعظ؟ بقاء شعبية هؤلاء وتياراتهم مرتفعة رغم فشل رهاناتهم التاريخية، ورغم افتقار خطابهم السياسي - إذا كان ثمة خطاب سياسي لهم - لأيِّ بُعدٍ (تنموي) حقيقي، إضافة إلى جنوحهم علناً نحو المطالبة بتكميم الأفواه ومصادرة الحريات، كما هو موقفهم المعيب من معرض الكتاب وغيره من المناشط الثقافية، فضلاً عن طرحهم لآرائهم السياسية بمنطق: (إن اختلفت معي فإنك تختلف مع الله)، يجعلنا نقف بكل ما أوتينا من قوة في وجه أية ممارسة ديمقراطية، أو انتخابات، لأن هؤلاء هم من سيفوزون بها قطعاً. ومثلما تورطت بهم مصر الآن وكذلك تونس ولا يدرون كيف يتخلصون منهم، سنتورط بهم حتماً، وسيترتب على ورطتنا تبعات تنموية كارثية، أقلها (حبس) النساء في بيوتهن، ومصادرة حقوقهن الإنسانية.. فالوعي وتنمية الإنسان والارتقاء بعقله السياسي يجب أن يأتي قبل الديمقراطية؛ هذه هي الحقيقة التي يجب أن نتنبه إليها لكي لا نقع في الفخ مثلما وقع فيه الآخرون.
إلى اللقاء.