لا أعرف الفريق أول محمود محمد بخش، ولا أظنه يعرفني، وقد وصلني كتابه المعنون (عام بلا صيف) من صديق مشترك يعرف أنني أحب هذه النوعية من الكتب (السيرة والذكريات)، وحينما قرأت هذا الكتاب الصادر مؤخراً (2012 - على نفقة المؤلف) فوجئتُ باللغة الأدبية التي لم أكن أتوقعها من رجل عسكري..
السيد محمود بخش من مواليد 1360هـ وتخرج في كلية الشرطة بجمهورية مصر العربية عام 1377هـ وتدرّج في السلالم العسكرية من رتبة ملازم حتى وصل إلى أعلى رتبة عسكرية في السعودية (فريق أول) في الأمن العام، ويشغل منصب رئيس لجنة الضباط العليا، ورئيس المجلس الأعلى لكلية الملك فهد الأمنية، وكان سابقاً مديراً عاماً للمباحث العامة، وهو حالياً المستشار الأمني لسمو وليّ العهد..
أقول: أعجبني في الرجل أن تلك الرحلة الحافلة بالنجاحات (العسكرية) التي حققها لم تجعله ينسى أدق الذكريات عن طفولته وأصدقاء (الحارة) في مكة المكرمة، وشوارعها وأزقتها التي كانت في أزمنة مضت ولم يعد لها وجود إلاّ في ذاكرة (الأوفياء) الذين لا يزالون على قيد الحياة. وأستغرب، أن رغم فارق العمر الكبير بيني وبين هذا الضابط المبدع إلاّ أن وصفه لطقوس مكة وتضاريسها يتطابق تماماً مع ما تختزنه ذاكرتي، وكأن مكة كانت على حال واحدة زمناً استوعب أجيالاً متعددة، ثم تغيّرت فجأة على الكلّ فلم يعد أحدٌ منا يجد ما يتطابق مع الصور القديمة التي كانت راسخة، منذ (سقيفة الصفا) التي لم تكن مجرد رواية لحمزة بوقري، وحتى آخر لقطة لصورة الأسواق الصغيرة التي كانت تحيط بالحرم المكيّ الشريف في تلك الأزمنة..
أعجبني كذلك أن الفريق أول محمود بخش لم ينس سبب التحاقه بكلية (البوليس) كما كانت تسمى، بل هو يفصّل بكثير من الاعتزاز أن السبب في قراره الالتحاق بهذه الكلية لم يكن نابعاً من رغبته هو، بل كان من أجل صداقة جميلة كانت تربطه بزميل له في الدراسة (الإعدادية) قرر والده أن يدخله إلى هذه الكلية، فقرر هو أن يكون مع صديقه أينما اتجه؛ ولعمري تلك قمة الوفاء في وقت اتخاذ القرار، وقمة أخرى للوفاء وهو يذكر ذلك السبب الآن ويوثقه في كتاب!
الكتاب غنيّ بالمعلومات والتفاصيل من جانبين، جانب (الحياة المكية) قبل الطفرة العمرانية الأخيرة فيها، وجانب (الحياة العسكرية) في دفعاتها الأولى التي خرّجت أسماء شهيرة أسست كياناً ضخماً لأجيال متوالية من الشعب المتنامي..
فهو يحكي بكثير من التفصيل، أولاً، عن الحياة في مكة المكرمة، قبل أن تصبح مكتظة بالجسور والأنفاق والأبراج الشاهقة، ويتجول بنا في الأزقة الترابية وبين الأبواب الخشبية والإضاءات الذاتية (الأتاريك) التي كان أصحاب البيوت الكبيرة يعلقونها في الشوارع لتضيء للناس الطريق.. ثم ينتقل بالتفصيل عن نفسه إلى الحديث عن (الحياة العسكرية) وكيف كانت الرغبة عند كل أفراد تلك الدفعات (الأولى) في تحقيق أشياء أساسية للوطن والمجتمع..
كلّ هذا كنت أتوقعه من كتاب يحتوي سيرة وذكريات ضابط كبير، ولكن المفاجأة بالنسبة لي كانت في اللغة الأدبية الراقية، كما في خاتمة كتابه، إذ يقول:(أما الصيف الذي غاب طيفه عن أعوامي، وتوارى ذكر أحداثه عن ذكرياتي، فهو الذي أقسمتُ بألاّ أبوح بأسراره، وهو الأمانة التي أودعتها سويداء قلبي بحكم عملي وحساسية وضعه، فلم آت بحرف واحد مما حواه أو إشارة إلى ما عساه، لأن هذا الذي حملت أمانته بالقَسَم وسيظلّ ما بقي في الجسم نَسَم، هو عندي كوسط العقد أنفسه وأغلاه.. )
اقتطفتُ تلك السطور من (الخاتمة) لأبين فقط أبعاد العنوان (عام بلا صيف) والرمزية التي لا يجيدها إلاّ أديب متمرّس في الأدب، فهو بهذا العنوان يحيل أذهاننا إلى الانفجار البركانيّ الأعظم في العصر الحديث، الذي نتج عنه انخفاض لدرجة حرارة الأرض طيلة ذلك العام (1883م) وهو المسمى (عام بلا صيف).. وبالطبع لا علاقة لهذا الكتاب بذلك البركان ولا بذلك العام، ولكنّ تطابق الاسم فقط جعلني أستحضره!
وربما أكون قد ظننتُ للحظة أن معالي الفريق أول قد استعان- كما يفعل كثيرون - بأحد كتّاب الأدب ليحرر له ذكرياته بصياغة أدبية (!) ولكنّ ظني تلاشى حتى أصبح (إثماً) حين انتبهتُ إلى أن تلك الدفعات التأسيسية من الضباط السعوديين كانت تضم عدداً من الأسماء المرموقة إبداعياً، مثل الأديب عبد القادر كمال، والفنان جميل محمود، وغيرهما ممن حافظوا على أدواتهم الإبداعية رغم انشغالاتهم الريادية بالعمل العسكريّ الذي وصلوا فيه إلى أعلى المراتب محققين له مكانته الحاضرة والمستقبلية.. وحين يكتبُ أحدهم سيرته أو ذكرياته، فإنه يقدّم عملاً يستحق القراءة من كل الجوانب.وأشير أخيراً إلى مقدمة د. إبراهيم العواجي التي وصف فيها كتاب (عام بلا صيف) أنه: (عملٌ روائيّ أدبيّ رفيعٌ، ليس من نسج الخيال..)!
ffnff69@hotmail.com