لست إسلامياً بل مسلم أفهم النصوص كما فهمها السلف الصالح، وأجدني محتاجاً لهذا التصريح الذي قد لا يفيد القارئ بقدر ما يقرب له فكرة هذه المدوّنة المسمّاة (الجماعة الإسلامية ماض وحاضر)، فهي لا تصدر عن حركي ولا عضو ولا قيادي ولا مؤسس ولا غيره، إنما تصدر
عن مسلم يرى ويسمع، وكم تمنى أنه لم ير ولم يسمع كثيراً من الأشياء والوقائع، ولعلِّي لا أبالغ حين أقول: ولسنا بحاجة إلى التسمِّي بالسلفية في السعودية، فنحن نتبع السلف وكفى، ولكن هذا المسمّى قد يحتاجه البعض خارج السعودية ليبيِّن موقفه وليفهم قوله لأنه في مجتمعات مختلطة، أما نحن بحمد الله فقد كفينا هذا لأننا سلفيون حقيقة والعبرة بالحقائق لا بالشعارات، وللرد على من خالف في هذا نقول أليس السلفيون من أشدّ الناس تمسكاً بالمصطلحات الشرعية في الأسماء والأحكام وبعضهم يوسع الدائرة أيضاً الجواب: بلى.
إذن أين نجد اسم (السلفية) في كتاب الله وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم وهما مصدرا التشريع العظيمين، بل إنّ الله جلّ وعلا لم يختر لنا سوى (هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) فكيف نختار على اختيار الله. أما بالنسبة للتعامل مع النصوص فنحن ندين الله جل وعلا بفهم خيار الأمة سلفنا الصالح الصحابة والتابعين والتابعين لهم بإحسان أقولها لما رأيت من امتهان لهذا المسمّى النبيل عندما يحول إلى لعبة دبلوماسية لدرجة أن كل من لم يشم للسلفية رائحة بعد الربيع العربي يقول أنا سلفي؟!
وعلى كل فالجماعة الإسلامية اليوم تختلف عنها بالأمس ولم أكتب لأعدد الفروق التي لا تخفى على ذي عينين، ولم أكتب لأعدد السلبيات والإيجابيات لهذه الاختلاف والتغير فلن أبرر ولن أدين، إنما سأدلف لموضوعي مستعيناً بالذي عليه يستعان:
بودي لو أن أحدهم فكر عني في نقطة غاية في الأهمية ألا وهي أنّ الدعوات الإصلاحية التي تدعو إلى التوحيد الخالص، وعلى رأسها دعوة الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب، كانت فطرية تروم الاقتراب من النموذج (ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه) بلا رتوش ولا تعديلات ولا زينة لفظية ولا شكلية، بينما كثير من الدعوات الأخرى والتي أعقبت الاستعمار أو جايلته تقترب من الرسوم الشيوعية هي لا تدعي ذلك ولا تريده بل لا تعيه ولا تشعر به هذا الذي يبدو لي، إلاّ أنّ بعض المنظرين لهذه التوجهات المسمّاة إسلامية صرحوا بـ(الاشتراكية الإسلامية) وأنّ الإسلام لا يختلف عن الاشتراكية إلاّ في بعض النواحي لقد تحدثوا كثيراً عن شمولية الإسلام بأسلوب مؤدلج يقترب كثيراً من روح المجتمعات الحمراء، وحاولوا إقحام الناس في انفصام اجتماعي نكد فهم لا يدعونهم للتوحيد وإخلاص العبادة بل يقدمون كل شيء على دعوة الرسل، ومن يؤسس بنيانه على شفا جرف هار ينهار نهاية المطاف.
وعليه فقد ظهر عندنا الأدب الملتزم على غرار الأدب الروسي الملتزم وظهر عندنا التنظيم والحركة وأشياء من هذا القبيل تحاكي التحزب الشيوعي قبل أن ينتقل القوم إلى الديمقراطية، حالهم كحال أبناء عصرهم من الأطياف الأخرى المتنقلة حسب الظروف.
قد تكون هذه الجماعة ضرورة في بلد من البلدان وقد تكون ضرورة في وقت من الأوقات وقد يكون من مات من مؤسسيها أو أعضائها يغمس في أنهار الجنة، فنحن نتحدث عن ظاهرة ضخمة معقدة لا تقبل على علاتها ولا ترفض على عواهنها بل هي بحاجة لتفصيل دقيق، ولن ينقذنا من هذا المأزق إلا التركيز على المصطلحات والتفاوض مع جميع هذه الحركات من خلال المصطلحات المسيطرة اليوم، والتي انتقلت إليها بعض هذه الجماعات كالديمقراطية وأنها صنوة الشورى والحرية والمساواة وما دار في هذا الفلك من مسالك ومسارب وشعارات.
دائماً وأبداً كانت المصطلحات مصدر الإزعاجات والنزاعات والافتراق منذ ظهور طلائع الفرق الضالة في تاريخ العقيدة الإسلامية، فقد أعطوا ذكاء ولم يعطوا زكاء وأعطوا علوماً ولم يعطوا فهوماً، فراحوا ينحتون المصطلحات الوضعية فراراً من الأسماء الشرعية الحاسمة والتي تسد الطريق أمام التصرف البشري والتعامل الفهلوي، إذ لا مجال للفهلوة ولا للعقول القاصرة في القضايا الكبرى التي لأجلها رفعت السماوات، وبسطت الأراضين ونصبت الجبال.
إنّ فوضى التعامل مع المصطلحات لا تزال تتكرر وتكرر معها الانشقاقات التي لا تردم، ولقد انتقلت الجماعة الإسلامية من التنظيم الشيوعي للتفكير الديمقراطي:
(يا مَنْ تيمّم عَمراً يستجيرُ به
أمَا سَمِعْتَ ببيْتٍ فيهِ سَيّارِ)
(المسْتجيرُ بعمْرو عند كُرْبته
كالمسْتجير من الرّمْضاءِ بالنَّار)
هم ليسوا شيعيين ولكنهم ينظمون الصفوف كذلك في تلك الحقبة، وهم اليوم ليسوا ديمقراطيين وإن تظاهروا بهذا، ولكنهم يستخدمون الديمقراطية كما يستخدم الكنيف وهذا مما لا أشك فيه، ولكن الذي لا أشك فيه أن بعض منظريهم قد أصبح لبرالياً مغشوشاً (الليبرالي الإسلامي) وهو أخطر من الليبرالي الأصلي، ومن هنا نبدأ في فحص هذا المصطلح (الديمقراطية) ونرد على من شبّهها بـ(الشورى) فديمقراطية الغرب شيء وشورى الإسلام شيء آخر، وقبل الفحص لعلنا نورد جملاً وخطوطاً عريضة أو بالأحرى والأجدى نطرح أسئلة عن واقع أفراد الجماعة الإسلامية وما آلت إليه، والذي يبدو لي أن التفلت والتغير يعود لأصل واحد وهو انطلاق معظم هذه الحركات من خلال قراءتها الخاصة للتاريخ والسنن ومن خلال تجربتها الخاصة مثلاً يذكرون أن العنف أصابنا بالتراجع والتدهور إذن نترك العنف، ويذكرون أن هجر أهل الأهواء أو بغض الكافر أصابنا بالانكماش وفرض علينا عزلة اختيارية، إذن فالتطبيع هو الحل، وهكذا يذكرون كل شيء إلا أمر الله ورسوله والأولى أن ينطلقوا من منطلقات النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة والمعاملة والسياسة لأنه ينطلق من منهج ثابت لا من واقع متغير، ولهذا تفصيل يضيق به المقام ونرجئ الأسئلة لاستهلال الجزء الثاني بإذن الله.
t-alsh3@hotmail.com