من استعراضي لمدلولات المادة اللغوية لمفردة “النهضة” في القواميس والمعاجم العربية اتضح لي أنها تدل على معنيين محددين:
1- الحركة التي تعقب السكون، وهي حركة تبدو متسمة بالسرعة والمفاجأة، وهي ليست بعيدةً عن المعنى الاصطلاحي الشائع في التراث الثقافي العربي كما سيتضح بعد قليل.
2- القوة والعزيمة، وهي متممة لمعنى الحركة المفاجئة السريعة، لأن أي حركة تحتاج إلى قوة وعزيمة وجلد.
أما في الكتابات العربية المعاصرة فترد مفردة النهضة بمعان ودلالات متعددة، إذ تستعمل:
أولاً: بصورة إجرائية لدى البعض من الكُتاب والمؤرخين في باب تحقيب التاريخ العربي، قياساً على تقسيم تاريخ الغرب “تاريخ قديم ووسيط وعصر النهضة والعصر الحديث ومن ثم المعاصر”. ويبتدئ عصر النهضة في التاريخ العربي بنهاية القرن الثامن عشر، وينتهي في النصف الأول من القرن العشرين. وتعتبر هذه الفترة التاريخية -في نظر هؤلاء الكتاب -بمثابة المرحلة الانتقالية من ظرفية التأخر التاريخي الشاملة التي كان يعيشها العالم العربي والمتمثلة في ركود بُنيَاته الاقتصادية والاجتماعية، وجمود لبناته الفكرية على قوالب تقليدية وسيطة إلى عالم التقدم والرقي الحضاري والازدهار العلمي والفكري.
يقول أحد الكتاب المعاصرين:(أقر المؤرخ الأدبي عند العرب مصطلح “النهضة” ليقابل به المرادف الأوروبي Renaissance معلماً بذلك على فترة تحولات، عصفت بمجموعة من ثوابت ما يطلق عليه “عصر الانحطاط “الذي يقابل بدوره العصر الوسيط).
لقد استبد فكر الغرب ببنية تفكير البعض من المثقفين العرب فتحول في صيرورته العامة إلى مقاييس نقيس عليها تاريخنا، ونحقب بها زماننا، أو معيار نرى على أساسه مقدار انحراف هذا التاريخ أو تطابقه مع هذا المعيار الغربي الغريب!!، وكأن التاريخ الحقيقي العام هو تاريخ أوروبا فقط، مع أن هذا النهج مخالف للمنطق السليم، ذلك أن النهضة الأوروبية ظاهرة خاصة بهم.. إنها مرحلة انتقال فعلي من عصر الإقطاع والحق الإلهي في السلطة، إلى عصر الرأسمالية وولادة الدولة الحديثة -كما سبق-، عصر تحطيم قوة النبلاء والكنيسة، وعصر نشوء الدول القومية التي نمت في أحضانها البورجوازية الحديثة، في حين أن المحرك الأساس في النهضة العربية آنذاك هو الاصطدام بأوروبا الإمبريالية المتقدمة، حيث أفرز هذا الحدث إلهام سؤال المفكرين العرب.. لماذا تأخرنا وتقدم الغرب؟ وتنوعت الإجابة على هذا السؤال حسب منطلقات المفكر العقدية. وعلى هذا الأساس فإن ما أُطلق عليه “عصر النهضة العربية” لا يعكس فكراً واحداً متجانساً، ولا يمثله تيار فكري واحد، وإنما هو مجموع تيارات متناقضة ضمت إليها نخب فكرية عاينت التفاوت الفادح بين مظاهر التقدم وعلائم التخلف وطرحت سؤال النهضة الأساس ثم حاولت الإجابة عليه. ولاشك أن أهم هذه التيارات ما سمي “حركة الإصلاح الديني” و”تيار التنوير العلماني”، ومع مابين هذين التيارين من اختلاف إلا أن هناك قيماً مشتركةً أكدت عليها جميع تيارات “عصر النهضة” وعلى رأسها هذان التياران، وهي قيم العقل والعلم والحرية، إضافة إلى هذه القيم دخلت قيم أخرى لم تكن مشتركة بالضرورة بين الجميع كقيم الاشتراكية، والوطنية، والقومية و... وتوحي بعض استعمالات المصطلح داخل دائرة أدبيات عصر النهضة بنوع من المماثلة بينه وبين مصطلح “النهضة الأوروبية” -والذي سبق الحديث عنه- وهذا هو الاستعمال الثاني لهذا المصطلح.
ويطلق مصطلح “النهضة “ثالثاً على الكتابات الفكرية المتضمنة الثورة على الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة، والمتطلعة نحو حياة جديدة تتحرر فيها النفس البشرية على الصعيد الفكري من ربقة الماضي، ويتحرر فيها الفرد والمجتمع على الصعيد السياسي والاجتماعي من ربقة التقاليد الموروثة، أو من الاستعباد والفساد في جميع أشكاله، حتى ولو كانت هذه الكتابات بعد انقضاء ما يسمى “بعصر النهضة العربية”.
ويوظف مصطلح النهضة في استعمال رابع شعاراً للتعبئة الشعبية، إنهم يقولون للناس، للمجتمع، يجب أن نقوم بالنهضة لأننا متأخرون، ويحاول أصحاب هذا القول أن يضعوا أمام شعوبهم نوعاً من الهدف المثالي يدفعهم ويحثهم على العمل والتضحية من أجل الارتقاء بمستوى حياتهم أو وجودهم القومي والوطني والأممي الاجتماعي و...
والمعنيان الثالث والرابع هما المرادان عند إطلاق مصطلح النهضة لدى القادة العسكريين من القوميين الذين لا يعرفون للفكر مكاناً في عقولهم، وإنما يقودون الشعوب بالشعارات المثالية الخالية من المضمون، بل حتى لدى غالبية مفكري القومية العربية الذين يربطون بين بزوغ النهضة وظهور النزعة القومية في البلاد العربية، ويقيمون رؤيتهم النهضوية على أسس علمانية صرفة، وأعتقد أن هذين المعنيين هما المحرك لبعث المصطلح من جديد هذه الأيام وللحديث بقية عن إشكالية النهضة العربية وإلى لقاء والسلام.