يبدو لي بمتابعة الساحة المحلية والعربية على مدى بضعة عقود أن سمة تفاعل أفراد المجتمع اليوم تباعدت عن التواصل إلى جدل « التفاصل للتفاضل». لاشك أن النجاح في محو الأمية وانتشار التعليم والصحف عند عموم الناس خاصة الشباب أدى إلى تضخم رغبتين فطريتين: الرغبة الأولى في التعبير عن مشاعرهم الذاتية، والأخرى في إبهار الآخرين بتميزهم. وقد تكون هذه الأخيرة عالمية ولكنها كظاهرة شرقية أو محلية عربية تنامت لانعدام مجالات الترفيه والحضور التي تملأ فراغ الوقت وتمتص الطاقة في عنفوان تدفقها وتمنح فرصة إظهار المواهب الأخرى. وفي غياب التواصل بين فئات المجتمع - إلا في ما يتعلق بمجابهة الفرضيات الفئوية وقمع التيار السائد للتوجهات المختلفة - تحول الحوار إلى جدل غير إيجابي لإثبات مَن مِن الفئات الأحق بالإصغاء إلى طروحاته واعتمادها تدوينا للحقائق الأصح في توجيه التفاعل المجتمعي العام.
الرغبة الأولى تدفع الآلاف إلى ملء الصفحات, كما فعل الأسبقون, بسيل من الوجدانيات والمشاعر الإنسانية المشتركة. كلام كثير عن الحب والعشق والهجر والشوق والتألم والحيرة ؛ وقد ينحدر إلى إباحية الشبق والتعطش الجنسي بمفردات مواربة أو مباشرة. والمؤسف أن البعض ينحدر أكثر إلى الدخول في التفاصيل المتعلقة بصورة مرضية حتى ليثير الغثيان؛ حيث تتلوث الكلمات بسوائل الجسد ويظن كتابها سردا ونظما أن هذا يماشي المستجد العالمي وهو ما يضمن كثافة المتابعة, حيث المراهقة المتقدمة والمتأخرة واختلاط الأحلام بالاحتلام قد يخدم أكثر من غرض: التنفيس - في مواجهة ضغوط الكبت المجتمعي-، والتنافس على جذب المتابعين وربما تسويق المنتج, وإثبات الانتماء إلى فئة « المثقفين» حتى لو بالاستلاف من الآخرين. ويتناسى الكاتب المحلي أن قدوته في الخارج يرصد ممارسات مجتمعه, أما محليا فهو ينسج على منوال مستورد. ولا يضاهي هذا إلا الكتابات الناقدة والمسيسة والجالدة لذات المجتمع حيث يتكلم الكاتب بصيغة « نحن», ولكنه فعليا يستثني نفسه لأنه « مثقف» قادر على الحكم بسوأة الأقربين ؛فهو جريء ومتميز في عين ذاته وفي عيون بعض المتابعين الذين لا يملكون جرأة استخدام مصطلح « نحن» حين يكون الأمر دعوة إلى استنقاص الذات بنزع غرض الفخر من قائمة أغراض الشعر العربي مكتفين بالهجاء وأحيانا الرثاء. ولعل لهم عذرا في التشبه ببعض. هنا يأتي خط التلامس مع الرغبة الثانية في الظهور والتميز, وهو خط غائم لأن معايير التصنيف غائمة أيضا. فاختيار ما تقرأ على أساس سرعته في استثارة الانفعالات تعطشا أو غضبا أو نقمة أو كرها، هي غير معايير اختيار ما تقرأ لنوعية استثارته للتفكير العلمي أو التحليل السياسي أو بناء المعرفة العلمية. وقد حاول البعض الأكثر موهبة وثقافة خلط الخل بالزيت ونجحوا إلى حد ما. وهي في الحقيقة ممارسة الكتابة بطريقة المقبلات ثم الوجبة الرئيسية ؛ موجة امتطاها نزار قباني وظل يحاول التوازن فوقها لعقود عمره، والمقتدون المنبهرون ما زالوا يقلدون حالمين بالتصفيق الذي حققه. فالرغبة الثانية هي ما جعل ساحة الكتابة ساحة لاتقنين لها وديدنها تقليد أول موجة من المجددين - ممن اتصلوا بأدب الغرب - مع فقدان الصلة بالرغبة في الريادة.
أعشق المكتبات ومعارض الكتب وأتابع من المقالات ما يصلني وإن أصابتني بالدوار والزحمة الفكرية. ولا يسمح الوقت، مهما تفرغنا، لقراءة كل ما يصلنا اليوم من كتابات.
شخصيا أتخير منها بدءا ما يوحي لي العنوان أو تفاصيل الكاتب أنه سيضيف شيئا إلى معرفتي.. أقرأ أول بضعة أسطر وأكمل قلة منها.. وأتأثر من بعضها الأقل, وأنبهر بالندرة. والأهم منها أحرص أن أضيفه في صفحتي بالفيس بوك ليراه مرتادوهما - فهو ما أشعر أنه واعد بتطوير ثقافة استيعاب المجتمع لبعض القضايا المصيرية الهامة. وثقافة الحوار المقنن بحيث لا ينفلت إلى استعراض عضلات متوهمة أو مناقشات بيزنطية أو تراشق رماح الفخر والهجاء أو استثارة العداء والإقصاء والاستعداء. أو وهو الأسوأ التخدير والانتشاء.
ليس المهم من أنت مجتمعيا! اسمعني تفاعلك مع ما تقرأ.. أقل لك ما أنت فكريا!