** في فترة الصراع الحداثي التقليدي خلال الثمانينيات وأوائل التسعينيات دار الحديث حول المتون؛ فقرأنا مناظراتٍ وَسَمتْها الحدةُ والشخصنةُ حينًا والهدوء والموضوعية أحيانًا، وأضافت للمشهد الثقافي صورًا عن التجاذبات الفكرية التي استمالت أقوامًا ونفرت آخرين، ولم يخلُ المشهد من الهوامش؛ فكنا نرى - بين آنٍ وآن - إعلانًا “ طرَفيًّا “ عن خارجٍ على هذا التيار أو ذاك ضمن سياقٍ محدود يسعى لتوصيل صوتهِ عبر إثبات تحول طارئِ من وجهةٍ إلى نقيضها.
** كانت الوسائطُ محصورةً في الصحافة الورقية والتداول الشِّفاهي؛ فقد بقيت الوسائط المرئية والمسموعةُ على الحياد غيرَ معنيةٍ بما يدور، أو لعلها وُجهت إلى ذلك كيلا تُشعِل وتُشغِل؛ وبخاصةٍ أن في المتحاورين من خاض في العقائد والذمم فصدقه بعض العامة، وبدا بعضُ المنصفين حريصًا على الاستفهام والمراقبة عن صلاة هذا وسلوك ذاك، ونعرف أناسًا بأعيانهم سعوا فيما يشبه التجسس لمتابعة بعض الرموز، بعدما وقرّ في وعيهم أن الحكايةَ ملهاةٌ مؤدلجةٍ تريد كسب مساحةٍ لتيارها.
** طال الضررُ عددًا من الأنقياء كما يحسبهم عارفوهم “وحساب الجميع على الله”، وتجاوزهم لأولادهم ومعاملاتهم وحقوقهم، ولم ينته الضرر بانحسار موجة النقاش المحتدم، وبقي من لم يتخطَّ ذهنُه تلك المرحلة التي لم تولد فيها وسائط التقنية لحسن الحظ؛ فلم يمتدّ لهبُ الاتهام للأيدي وصخب الاصطدام للأقدام.
** قالوا: إن التاريخ كالمجنون يكرر نفسه، وقد أعاد اليومُ الأمسَ من خلال شحناءَ فضائية لا تتورعُ عن اتهام الناس في دينهم وأعراضهم وانتماءاتهم؛ مستفيدةً من المساحة المفتوحة في إعلام التواصل الاجتماعي، ومستغلةً الاختباء خلف معرفاتٍ مجهولة لإيقاظِ فتن واستقطابِ عامة وإثارة عناوين يكفيها اعترافٌ لاغتراف، وادّعاءٌ لانضواء، وكلماتٌ تائهةٌ لبناء محكمةٍ وتنفيذ حكم.
** العنوان هذه المرة هو “الليبرالية”، وهي - كما الحداثة - ليست دينًا ولا مذهبًا ولا عقيدة، بل نهجٌ مدنيٌ للتحرّر من السلطات التقليدية في بعض الأبعاد السياسية والثقافية والاقتصادية تحديدًا، ولا يجيء - في تعريفاتها - الانفلاتُ من الدين أو من قيم المجتمع الثابتة، ولا تجادل في الأركان والنصوص القطعية ثبوتًا ودلالة وإن كانت لها اجتهاداتها في تفسير بعض النصوص؛ ما يقبل الأخذ والرد، ولا يعنينا الأشخاصُ ولا الممارسةُ هنا؛ فلو فعلنا ذلك لوجدنا من يعتمر الدينَ وهو يناوئه، كما لا يعنينا وجودُ ليبرالية حقيقية أو مزيفة؛ ففي غيرها شبيهٌ لها.
** وصل فئامٌ “أو أُوصلوا” لمرحلة التشكيك في الولاء الوطني، وطغت العنصرية والإقليمية والطائفية والإقصائية، وفتحت بيوتٌ لم تؤت من أبوابها، وغرد اسم مستعار فردده صغار و”يوشك بعضنا أن يضرب رقاب بعض” في إرهاص فتنةٍ قد يكون لها ضرام إن لم يتداركها الكبار.
** الكلمةُ حبٌ وحرب.
ibrturkia@gmail.comt :@abohtoon