سعادة رئيس - تحرير- صحيفة الجزيرة، الأستاذ: خالد بن حمد المالك.. سلمه الله..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فقد اطلعت على مقال - فضيلة الشيخ -: صالح بن فوزان الفوزان - حفظه الله -، في - صحيفة - الجزيرة في عددها، رقم 14406، وتاريخ: 15 - 4 - 1433هـ، حول الخوض في إثبات دخول شهر رمضان، وخروجه، إلى أن ختم فضيلته المقال، بقوله: «لكم حسابكم، ولنا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم».
وعليه أقول لقد تعلمت يا فضيلة الشيخ أيام الطلب - ولا زلت -، أن من آداب الخلاف: حسن الظن. وأن بقاءنا إخوة في الدين، مع اختلافنا في المسائل الاجتهادية، خير من تفرقنا، و تمزقنا، وبقائنا على خلافاتنا.
أقرر بداية، أن من أشد ما يظهر من اختلافات سلبية، أدت إلى جدال على مستوى الساحة الداخلية، القدح بعلماء سابقين، والتزهيد بعلماء معاصرين، والتقليل من احترامهم، وتقديرهم في صدور الناس، ما سيؤدي - بلا شك - إلى تنفير القلوب عنهم، وعدم الاستماع إليهم، أو الصدور عن أقوالهم. كما أنه مجلبة لغضب رب العالمين، كما في الحديث القدسي، عند البخاري: «من عادى لي وليا، فقد آذنته بالحرب».
إن من أعظم صور البلاء على الأمة، أن أناسا كتبوا بأقلام، ظنوا أنهم يكتبون بمداد البحر. ورأوا في أنفسهم أنهم يحسنون صنعا، فناطحوا شمم الجبال؛ لينالوا ذراها المرفوعة. ولمزوا أكابر العلماء، بعد أن سفهوا أقوالهم بالنقد اللاذع، واستهجنوا آراءهم، وانتهجوا سياسة التحقير من شأنهم، وهدر مكانتهم. ورجمهم بالجهل - تارة -، وعدم علمهم بالواقع، وفقههم به - تارة أخرى -.
وإذا كان الله قد أمرنا عند مناقشة أهل الكتاب، أن نناقشهم بالتي هي أحسن: «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم». فكيف سيكون الحال في مناقشة أهل العلم الشرعي؟. أليس هو: الأخذ بمكارم الأخلاق، والوقوف مع المستحسنات، وتعظيم من فوقك، والرفق بمن دونك!. فلماذا تحول بعض كتابنا في نقاشهم مع كبار العلماء، فيما يذهبون إليه من توزيع الاتهامات، وإطلاق الشتائم، والتشنيع عليهم، والولوج في نواياهم، واعتماد المبالغة، وذلك من خلال تلاسن كلامي، ومهاترات لفظية. اعتمدت التهريج، والسطحية، والجدل العقيم؛ من أجل الانتصار للنفس، حتى ذكرتنا تلك الكتابات، بحروب داحس والغبراء.
قصدت بهذه المقدمة التأكيد على احترامي وتقديري ومحبتي لعلمائنا الأجلاء وبينهم فضيلة الشيخ صالح الفوزان عضو هيئة كبار العلماء الذي أحترم رأيه وأقدر علمه وغيرته على الإسلام.
همسة عتب!
ومن مبادئ المجتمعات الإنسانية الراقية، حق «إبداء الرأي» في إطار عدم المساس بالأمور العقدية، أو التطاول على الثوابت الدينية. هذا الحق يعتبر ممارسة سلوكية ضمن منظومة أخلاقية، ونتيجة طبيعية لنظام تربوي واجتماعي وأخلاقي لتقدم المجتمع، وتطور الفكر بشكل عام. فالحوار على ما لم نتفاهم عليه، والاتفاق على ما تفاهمنا عليه، هو وسيلة لتشذيب النفس، وتسليحها بعلمية وسعة الثقافة، وهذه هي المعادلة الصحيحة.
مع الأسف، فإننا في واقع التطبيق نرى حالة مأزومة، وفجوة حضارية كبيرة، تزداد صعوبة وقتامة في ظل انحسار الآمال، من حيث عدم تقبل «الرأي الآخر»، ومحاصرته في زاوية الإلغاء، - ولاسيما - إذا كان هذا الرأي، لا يتفق مع ما يؤمن به صاحب الرأي الآخر. - وبالتالي - تكون تلك الآراء في نظر هؤلاء مضيعة للوقت، وترفض - حينئذ - على أقل تقدير، هذا إن لم يخون أصحابها، أو يقصوا لمجرد أنه الآخر، وهذا - بلا شك - ضعف في آلية البناء المنهجي نحو القبول بالتعددية.
فضيلة الشيخ صالح الفوزان: خلاصة مقالي الموسوم، بـ: «لماذا يعترض الفلكيون؟»، والذي نُشر بتاريخ: 9 - 4 - 1433 هـ، هو التأكيد على: أن الجمع بين رؤية الهلال مباشرة عن طريق الرؤية بالعين المجردة، أو عن طريق الرؤية بواسطة آلة تكبير من مرصد فلكي، أو غيره. مع أخذ الاعتبار لرأي الهيئات العلمية، التي لديها علماء، ومختصون في علوم الفضاء، والفلك، سيكون سببا في تضييق دائرة الخلاف، والتفرق، والتشتت، وسيعكس صورة جميلة عن وحدة المسلمين.
- لذا -، فإنني لم أفهم مغزى العبارة التي أطلقها فضيلتكم في زوايا المقال، حين كتبت -حفظك الله- ما نصه: «وقد جاء من يحاول زحزحة المسلمين عن العمل بهما إلى العمل بما يقتضيه الحساب الفلكي، الذي صار مقدسا عند بعضهم. ولم يزد الدكتور المذكور على تكرار ما قيل من شبهات، ومحاولات يائسة مصيرها الفشل، وحصول الاختلاف الذي هو نتيجة من تخلى عما شرع الله في هذا، وفي غيره».
إن عمق الوعي والنظرة المحايدة، أمران مهمان في توضيح الآراء، وتقبل منطلقاتها، إذا كانت نتائجها صحيحة؛ لنعرف حدوده بموضوعية، وإيجابية. وبالتالي - فإن اختلاف الآراء ليس - دائما - سلبيا، بل يمكن أن تكون له نتائج إيجابية. أفَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ . ويستحيل أن يكتمل نسيج الحياة، فالاختلاف البشري إرادة إلهية. والدين إنما توحدت جذوره؛ لتختلف أعضاؤه، فتثمر. ولن يتشكل حراك اجتماعي إيجابي، دون أن تكون هناك مشاركة بمختلف شرائح المجتمع.
ثم إن قولك يا فضيلة الشيخ: «وأما قول الكاتب هداه الله: يستحيل أن يكون الدين الإسلامي دين تخلف، وتصادم، مع العلم، والعقل، والمعرفة.. وقول الكاتب هذا قول خطير، حيث اعتبر العمل بالرؤية الشرعية، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم تخلفا». مع أن العبارة التي ذكرتها، هي: «وتأسيسا على ما سبق: فإنه يستحيل أن يكون الدين الإسلامي دين تخلف، وتصادم مع العلم، والعقل، والمعرفة، فديننا دين علم يدعو للإيمان، ويضيء المسالك، ويهدي إلى أقوم السبل، وأوضح المعالم، وهو قادر على استيعاب تطورات العلم، ومستجدات الحياة، وإعادة صياغتها وفق ثوابت الدين، ومقاصد الشريعة». فأين التخلف الذي ذكرته فضيلة الشيخ - حفظك الله -؟، وأين تكمن خطورة العبارة؟.
وحتى لا نعتمد على مقدمات خاطئة، تقودنا إلى الخطأ، ولن نكون موضوعيين إذا فعلنا ذلك، وتلبسنا به. فآراؤنا صواب تحتمل الخطأ، كما أن آراء غيرنا قد تكون خطأ، لكنها تحتمل الصواب. والاختلاف - حينئذ - سيكون اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، - خاصة - إذا كانت القضايا المتداولة حولها الآراء محل اجتهاد.
وإذا كان النقد البنّاء حول فكرة «ما» يمكن قياسها، فإن بذل الجهد لوصفها عن طريق إبراز الإيجابيات، والسلبيات بشكل منضبط، ووفق ضوابط شرعية، أو عقلية؛ من أجل دفع توجه العمل نحو الأمام، - مطلب مهم -. ولإيجاد نقاط تواصل بين أطراف الموضوع، فإن عرض وجهات النظر على عقولنا بكل شفافية، دليل على إمكانية التشخيص العلمي الدقيق؛ لتصحيح الأخطاء، وعدم تراكمها، كما أنه دليل على ثقة المنقود بقدراته، ونزاهته. - وبالتالي - فليس من النقد البنّاء، الدخول في النيّات، والخوض في المقاصد.
أما قولك يا فضيلة الشيخ: « نحن نشكر مدينة الملك عبد العزيز على جهودها، ولكن لسنا بحاجة إليها، ولا إلى غيرها في هذا الشأن الذي حسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا»، فإني أقول: أما نحن فإننا في حاجتها، كونها أحد أهم المشاريع العلمية التي تفخر بها بلادنا، وباعتبارها مؤسسة حكومية علمية، تقوم بدعم، وتشجيع البحث العلمي؛ للأغراض التطبيقية، وتنسيق نشاطات مؤسسات، ومراكز البحوث العلمية في هذا المجال، بما يتناسب مع متطلبات التنمية في المملكة. ومن أهم ما أنيط بها: إعداد التقارير الخاصة بأهلة الأشهر القمرية بشكل دوري، والمشاركة في لجان الرصد؛ لما له من ارتباط بالشعائر الإسلامية. وكلي أمل أن يأتي الجواب واضحا من المدينة، وموضحا للكثير من الخفايا، وكاشفا للغموض الذي يكتنف هذا العمل، دون أن تؤثر المدينة صمتها البارد؛ إبراءً للذمة، ونصحا للأمة.
وفي نهاية المقال، ذكرت يا فضيلة الشيخ، بأن: «ما حشا به الكاتب الأوراق من أسماء القائلين بربط الرؤية بالحساب الفلكي، فلا عبرة بمن خالف الحديث، ولو بلغ عددهم ما بلغ». مع أن العلماء الذين ورد ذكرهم في المقال، هم من أركان الشريعة، وأمناء الله في خلقه. ينبغي الترحم على من مات منهم، ومد جسور الود مع الأحياء، والانفتاح على آرائهم بلا ازدراء، ولا تحقير. وتوسيع مساحة المشترك دون وصاية فكرية، أو بما يتنافى مع آداب الحوار، ويتجاوز حدود اللياقة، بعيدا عن النقاش العلمي المثمر. إذ إن إنصاف المخالف، والعدل معه، ونقده بالحق، مع ذكر محاسنه، ركيزة من ركائز فقه الاختلاف؛ ليكون اختلافنا اختلاف تكامل، لا اختلاف تضاد. وذلك في المسائل التي تتجاذبها الأدلة، ويكون لها حظ معتبر من النظر. وهذه الركيزة في الحوار، هي ما أكد عليها - العلامة - ابن القيم - رحمه الله -، حين قال: «فإذا كان الاختلاف على وجه لا يؤدي إلى التباس، والتحري. وكل من المختلفين قصده طاعة الله، ورسوله، لم يضر ذلك الاختلاف، فإنه أمر لا بد منه في النشأة الإنسانية؛ لأنه إذا كان الأصل واحدا، والغاية المطلوبة واحدة، والطريقة المسلوكة واحدة، لم يكد يقع اختلاف. وإن وقع كان اختلافا لا يضر، كما تقدم من اختلاف الصحابة».
بقي أن أشير إلى ما ذكرته يا فضيلة الشيخ عن: « توحيد بداية الصيام، ونهايته في كل الأقاليم، وأنها ليست ممكنة»، فهذه ليست قضيتنا، إذ إن اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا، وعقلاً، ولم يختلف فيها أحد، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في اعتبار اختلاف المطالع من عدمه، كونها من المسائل النظرية التي للاجتهاد فيها مجال، والاختلاف فيها، واقع ممن لهم الشأن في العلم، والدين. وهو من الخلاف السائغ الذي يؤجر فيه المصيب أجرين: أجر الاجتهاد، وأجر الإصابة، ويؤجر فيه المخطئ: أجر الاجتهاد، وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على قولين، فمنهم من رأى اعتبار اختلاف المطالع، ومنهم من لم ير اعتباره، ولكل فريق أدلته من الكتاب، والسنة.
شهادة الشيخ عبد المحسن العبيكان!
لا زلت أذكر نقاش - فضيلة الشيخ - عبد المحسن بن ناصر العبيكان - المستشار في الديوان الملكي في بعض الصحف المحلية، والمنشور يوم الاثنين - الموافق -: 7 - 10 - 1432هـ، حول دخول الشهر بين الرؤية المجردة، والمراصد الفلكية. وأنه يجب عدم إغفال أقوال أهل الاختصاص في هذا الجانب، وهم الفلكيون. ثم أشار فضيلته إلى أحد - مؤتمرات الأهلة - التي عقدت في جدة، وأجمع من حضره من علماء، وفلكيين من عدد من دول العالم الإسلامي، والذي افتتح بحضور - سماحة الشيخ - عبد العزيز بن باز - رحمه الله -، على وجوب الاعتماد على أقوال الفلكيين في النفي دون الإثبات. وأفتى به - الشيخ - محمد بن عثيمين - رحمه الله -؛ لأن الإثبات يختلف حسب المكان، والزمان. ومعنى قبول قولهم في النفي: أنهم إذا قرروا أن القمر يغرب قبل الشمس، فلا يصح - أبدًا - قبول أي دعوى من الشهود، أنهم رأوه؛ لأنها تعتبر رؤية للمعدوم، وهذا مستحيل. أما إذا قالوا: يغرب بعد الشمس، فيمكن قبول الشهادة الحقيقية للهلال، وتتأكد صحة هذه الرؤية بظهور الهلال في المراصد؛ لأن تحديد إمكانية الرؤية بالدرجة، فيه اختلاف - حسب - صفاء الجو، وقوة النظر، ونحو ذلك كما ذكره - شيخ الإسلام - ابن تيمية.
وحينما تابع - فضيلة الشيخ - عبد المحسن، شهادات الشهود في سدير، وشقراء، والغاط - كلها -، أدرك أنهم يتبعون طريقة حسابية قديمة؛ لترائي الهلال. ملخصها: أنهم ينظرون إلى وقت ولادة الهلال، ووقت غروب الشمس من الحسابات الفلكية، ويستخرجون الفسحة بينها بالدرجات، بحيث إن كل ساعتين، درجة واحدة، ويضربون الحاصل بأربعة، والناتج هو مكث للهلال. وعند الترائي يتوهمون أن الهلال سيمكث هذا المقدار من الزمن، ويهيئ لهم بأنهم رأوه، ويشيعون أنه مكث بالمقدار الذي يستخرجونه من أذهانهم، إلا أن إجهاض القمر في بعض شهور السنة، يكشف سطحية هذه العملية البدائية، وهؤلاء الشهود لا يشاهدون الهلال البتة، ولو كانوا واثقين من شهادتهم، لفسحوا المجال لوسائل الإعلام بالنقل المباشر؛ لطريقة رصدهم. وأزيد على كلام فضيلته، بأن بعض من يصدّر بيانات حول ملف الأهلة - كل عام -، هو نفسه لا يعترف بدوران الأرض، ولا يصدق بأن الإنسان نزل على سطح القمر، ولا يعترف بالحسابات الفلكية التي تعتمد دوران الأرض أساسا لها، مثل: حسابات المثلثات الكروية التي تربط بين حركة الأرض حول الشمس، وحركة القمر حول الأرض. كما أنه لا يملك أي خلفية علمية في مجال علم الفلك، بل هو لا يقبل مجرد التحاور مع علماء الفلك، بسبب قولهم بدوران الأرض حول الشمس.
أين التنسيق؟
لائحة تحري رؤية الهلال، التي صدرت بالأمر السامي الكريم المبني على قرار هيئة كبار العلماء، وقرار مجلس الشورى، والتي تضمنت تشكيل لجان يشترك فيها الفلكيون بالمراصد، مع الاستعانة بمن يعرف بحدة البصر، وهذا يعني الجمع بين المراصد الفلكية، ورؤية العين المجردة، لماذا لا تطبق على أرض الواقع يا فضيلة الشيخ؟. وإلا فما فائدة حضور الفلكيين بالمراصد الفلكية، والتي تقرب البعيد مئات المرات عن نظر العين البشرية، ثم يقبل دعوى الشاهد برؤيته مع عدم رؤيته بالمرصد، أليس هذا مما يستحيل عقلًا، وشرعًا، وحسًا، إذ لا بد في قبول الشهادة من أن تنفك عما يكذبها عقلًا، وحسًا، وشرعًا. ومع اجتماع المرصد، والشهود، والفلكيين، يتلافى الخطأ، والوهم؛ لاستحالة أن ترى العين المجردة، ما لا يرى بالمرصد الفلكي في المكان الواحد، والزمان الواحد؛ لأن المرصد الفلكي يكبر حجم الهلال إلى مئات المرات.
وإذا كان القدح في الفلكيين، والتشكيك في قدرتهم، لا يجوز، إذ لا يمكن إجماعهم على الخطأ في هذا العلم المتقدم، والذي أثبت صحة ما يخبرون به في مدة الخسوف، والكسوف، ووقت شروق الشمس، ووقت غروبها، وتعامد الشمس في كبد السماء، وكل ما يتعلق بالعلم الفلكي البحت، رغم أنهم يخبرون عن ذلك قبل وقوعه بزمن طويل. وهذا ما قرره - شيخ الإسلام - ابن تيمية، بأن خبر الحاسب بالكسوف، والخسوف ليس من علم الغيب، ولا من الكهانة، أو التنجيم، فأين يكمن الحل - حينئذ -؟. وأين الدليل على الخطأ في الحسابات التي ذكرتها - يا فضيلة الشيخ - عندما قلت: «والتشكيك حاصل في حساب الفلكيين أكثر؛ لأن الحساب عمل بشري كثيرا ما يعتريه الخطأ. وأهل الحساب يختلفون فيما بينهم، مما يدل على عدم الاعتماد عليهم».
الحق في هذه المسألة الخلافية السنوية، لا ينقسم على اثنين!
أعتقد، أن دعوة - الدكتور - عبد الله المسند الجهات المعنية في السعودية، - وبالأخص - وزارة العدل الموقرة، ووزيرها المبجل - قبل ستة أشهر تقريبا -، بضرورة تشكيل لجنة حكومية شرعية، علمية - عاجلة -، مهمتها تقصي الحقائق، ودراسة الاتهامات المتبادلة بين الطرفين، في عشرات الحالات الممتدة - عبر - أكثر من عشرين سنة؛ لتتولى الاختبار، والتمحيص؛ لإنهاء المعركة، وإراحة الأمة من الغمة، بات مطلبا شرعيا، وحقا مشروعا. فالحق في هذه المسألة الخلافية السنوية، لا ينقسم على اثنين، بل هو مع واحد من الطرفين..؛ ولتكون مهمة اللجنة المقترحة، تقصي الحقائق عبر الاختبارات الميدانية، الحسية، العلمية، لكلا الطرفين بشأن آلية رؤية هلال، ويكون أمام اللجنة «10» أهلة قادمة قبل رمضان - القادم -، من خلال فحص، واختبار معطيات الطرفين عبر اختبارات ميدانية ذكية، ومصورة للعالم أجمع. وبهذه الطريقة العلمية، التي ذكرها - الدكتور - عبد الله، سيتحقق الهدف المنشود من تلك اللجنة قبل رمضان العام - القادم -، وستفصح اللجنة المقترحة عن حقيقة المعركة، وعن خطأ أحد الفريقين.. وحتى يشهد الناس الاختبار التاريخي للمعطيات الحسابية، والتي يدعي أصحابها: أنها قطعية. ويشهدوا - أيضاً - حقيقة رؤية الشهود، والتي يدعي أصحابها: أنها حقيقية، وحتى يتبين للناس عبر النتائج المسجلة، والمكتوبة من قِبل اللجنة. وهذا هو حق الأمة على اللجنة: أن تكشف الحقيقة، وتريحنا من موال سنوي، وصداع دوري، وسوف يتضح للجنة، والناس أجمعين، حقيقة علم الفلك، وحساباتهم، وحقيقة الشهود، وشهاداتهم في هذا الشأن، والقضية التي أصبحنا فيها نزيد، ونعيد مع كل عيد.
بل إن نتائج تلك اللجنة المقترحة، سوف تريح المسلمين من آراء المترائين، أو حدس، وتخمين الفلكيين. وهذا ما يريده - الدكتور - عبد الله، في حالة صدق المترائين في خطأ، وإخفاق الفلكيين في حساباتهم، فسوف يُحسب للمملكة العربية السعودية حق اكتشافها خطأ مسار، وحركة، وسرعة القمر حول الأرض، وهذا - في حد ذاته - اكتشاف غير مسبوق، قد يؤهلنا لجائزة علمية عالمية.
تحرير محل النزاع!.
كنت أتمنى على فضيلة الشيخ، أن يعلق على سبب الإشكال في موضوع الأهلة، الذي يتكرر في كل عام، - ولاسيما - تلك الشهور المرتبطة بالعبادات. وعدم الاعتبار لرأي الهيئات العلمية التي لديها علماء، ومختصون في علم الفلك، وحقائق الكون، ودقائقه. وهو ما أوضحه عضو هيئة كبار العلماء - فضيلة الشيخ - عبد الله بن سليمان المنيع - حفظه الله - بأن السبب، هو: «عدم الاعتراف للآخرين بحق القول، والركون إلى تزكية النفس، وعدم اتهام الرأي، والبعد عن مبدأ التحقق، والتثبت، والتواصي بالحق، من حيث البحث عنه. فمتى تنازلنا عن دعوة صحة توجهنا، وعملنا بقوله تعالى: فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وبقوله تعالى: فَتَبَيَّنُواْ .. إذا تم منا ذلك، واجتمعنا بعلماء الفلك، واستمعنا إلى ما لديهم، وطرحنا أمامهم إشكالاتنا، وتبادلنا معهم القول، أمكننا أن نصل إلى ما يقضي على مشكلة الرؤية للهلال».
إن الخلاف بين الناس سنة ربانية، وحكمة إلهية، بسبب اختلاف العقول والأفكار، والأمزجة والنفسيات. على أن الاختلاف له أصوله وآدابه وقواعده، منه ما هو محمود، وهو الاختلاف الذي يقوم على التنوع والتعدد، ومنه ما هو مذموم، وهو اختلاف التضاد والتباين. وبالإمكان العمل على ضبط الخلاف وفق قواعد الائتلاف، وقبل ذلك الالتزام بنصوص الكتاب والسنة، وتلبية احتياجات المسلمين في إطار هذا الواقع. وهذا الخلاف الأصل فيه الرحمة والسعة.
حكم الحاكم يرفع الخلاف!
وإذا كان ثمة خلاف بين أهل العلم في مسألة ما، واختلفت وجهات النظر، وتنوعت الآراء، والاجتهادات، فتأصيلا على القاعدة الفقهية الشرعية التي تنص على أن: «حكم الحاكم يرفع الخلاف»، بما لا يخالف نصا صريحا من كتاب الله، أو من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بما انعقد عليه إجماع الأمة، فللحاكم - حينئذ - أن يتخير في الأمور الاجتهادية، والخلافية ما يراه محققا، ومناسبا للمصالح الشرعية، والمقاصد المرعية، وإلزام الكافة به، ومنع الفتيا بخلافه.
فحال السياسة الشرعية كحال الفتوى، تتغير بتغير الزمان، والمكان، والأشخاص، والأحوال. وقد ذكر أهل العلم تطبيقات على تلك القاعدة الفقهية الشرعية، من ذلك على سبيل المثال: أمر أبي بكر الصديق رضي الله عنه محاربة مانعي الزكاة، وكذا: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه تحبيس أراضي سواد الرافدين، وتعشيرها رغم معارضة من خالفهما في ذلك.
وتأسيسا على ما سبق: في حسم موضوع الأهلة، فإني أرجو أن يحسم موضوع «إثبات دخول الشهور القمرية»، وخصوصا تلك الشهور المرتبطة بالعبادات بأمر ولي الأمر خادم الحرمين الشريفين حفظه الله. فإن الجدل يتجدد كل عام في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة حول إثبات رؤية هلال رمضان، وهلال شوال، وهلال ذي الحجة، وهلال شهر الله المحرم.
هناك كوكبة من علماء المسلمين المعتبرين، وعلى رأسهم عضو هيئة كبار العلماء فضيلة الشيخ الدكتور عبد الله بن سليمان المنيع، ترى أن الأخذ بعلوم الفلك؛ لترائي الهلال، وتحديده أوجب، وأدق؛ لأن الأخذ بالنتائج العلمية؛ لتحديد ولادة الهلال، هي نتائج قطعية، ودقيقة، يشترك في معرفتها جميع علماء ذلك العلم المعتبرين. وبالتالي، فإن تحري رؤية الهلال يكون باستخدام كافة الوسائل المشروعة عن طريق المراصد الفلكية، مع أخذ الاعتبار لرأي علماء الفلك؛ لأن اعتماد الرؤية البصرية المجردة من دون الاستعانة بالحساب الفلكي، ربما لا يحقق المقصود الشرعي. بينما يرى أصحاب الرأي الآخر، دعوة المسلمين بالاحتساب؛ لترائي الهلال، والأخذ بشهادة العدول فقط.
وفي تقديري، أن هذه مسألة مهمة تحتاج إلى إعادة النظر في تحري الرؤية الصحيحة للهلال، فنحن في عصر الاكتشافات العلمية المذهلة، التي ترصد حركة الأفلاك، والنجوم بدقة متناهية. وأصبح علم الفلك حقيقة، إذ الخلاف فيها أمر غير مستساغ، لذا ينبغي القيام بكل الوسائل المتاحة، والمباحة، التي تمنحنا النتائج العلمية الدقيقة، ولا أدل على ذلك من اعتمادنا على قول علماء الفلك في صلاتي الخسوف والكسوف، وتحديدهما ابتداء، وانتهاء، ومثله اعتمادنا عليهم في تحديد أوقات الصلوات الخمس، التي تحدد وقت شروق الشمس، وغروبها، والزوال، وانتصاف الليل بدقة متناهية.
إن استنباط الوسائل المتقدمة؛ لتحقيق رؤية شرعية للهلال، ومعرفة مطالعه، وحساباته، وتحديد بدايات الشهور القمرية، هو ما يتوافق مع حكمة الله في الأفلاك، والنجوم. ومن هذه الوسائل: الاستفادة من التقنيات الموجودة في الأقسام العلمية في جامعات المملكة، وفي مدينة الملك عبد العزيز للعلوم، والتقنية، والتنسيق بينهم، مع أخذ الاعتبار لرأيهم؛ لتحقيق مقاصد الشريعة، ومصالح المسلمين.
خاتمة!
إن المحك يا فضيلة الشيخ: هو الرؤية الشرعية الصحيحة للهلال بعيد المغيب، فالهلال لا يرى إلا بشروط، أهمها: ولادته، ومكثه بعد الشمس، وهذان الشرطان يعرفها علماء الفلك بكل دقة، تصل إلى أجزاء من الثانية، وهذا مصداقا لقوله - تعالى - الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ ، أي: بحساب دقيق جداً.
أعلم يقينا، أن ليس في موضوع الاجتهاد شيء اسمه صواب مطلق، فالاجتهاد في نهاية المطاف، ما هو إلا جهد بشري، من أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد. ولذا ينسب إلى - الإمام - الشافعي - رحمه الله - قول: «كل يؤخذ من كلامه ويترك، إلا صاحب هذا القبر»، يعني النبي صلى الله عليه وسلم. وكان الواحد منهم يقول: «اعرضوا رأيي على كتاب الله وسنة رسوله، فإن وافقهما، فالحمد لله، وإن خالفهما، فاضربوا به عرض الحائط».
ورحم الله - الإمام الشافعي - حين قال: «ألا يصح أن نختلف ونبقى إخوانا».
drsasq@gmail.com