إن الإشكالية الحضارية عند المسلمين يمكن إجمالها في اضطراب مفاهيم العلاقة:
1 - بين العقيدة والشريعة والرسالة.
2 - بين تدين الأفراد وتدين الدولة.
3 - بين التمايز العقدي للأمة وبين مهمة المشترك العمراني مع الآخر.
والإشكالية الثالثة التي تهمنا هنا هي الاضطراب بين فقه التمايز العقدي للأمة، وفقه المشترك العمراني أو الحضاري بينها وبين الآخرين، فإلى جانب العبادات الروحية كالصلاة والصوم هناك العبادة العمرانية أو العبادة الحضارية التي تتمثل بأداء الإنسان وممارسته في ميادين الحياة وهي المعنية بالنهوض بمسؤولية أمانة الاستخلاف في الأرض؛ فعندما، كما يكتب الدكتور حامد الرفاعي، تخلفنا وتقاعسنا عن تفعيل قيم الإسلام ورسالته في الحياة، واكتفينا بالارتباط الوجداني والعقدي بالإسلام، وانحبسنا بمحاريب العبادة الروحية، وعزلنا أنفسنا عن محاريب العبادة العمرانية، وعطلنا الحوافز الدينية والواجبات الربانية، التي تدعونا وتأمرنا للأخذ بأسباب البحث العلمي والتكنولوجي أصابنا ما أصابنا مما لا نحسد عليه من تخلف وهوان، فإشكالية التقدم عند المسلمين ليست بسبب الإسلام ولكن بسبب تعطيل الأداء الحضاري المتميز الذي يدعو إليه الإسلام، وهذا خير رد حول الشبهات التي تثار حول مساهمة الإسلام في الأداء والتقدم الحضاري، فمسألة التقدم تتعلق بتفعيل ميادين الحياة، أو تفعيل مرتكز “فامشوا” في حياتنا.
كما أن التفرقة بين التعاليم والتاريخ أمر ضروري، واستجلاؤنا لمعالمهما ليس إطنابا ولا سردا، وإنما يساعدنا على قراءة التاريخ بعين فاحصة وتكشف لنا متى كانت المجتمعات الإسلامية معبرة حقا عن الالتزام بالتعاليم ومتصالحة معها، ومتى انفصلت تلك المجتمعات عن التعاليم وتباعدت عنها، فالإسلام كمنهج وعقيدة بريء من تلك التجاوزات التي عرفتها بعض الحقب من حياة المسلمين، وهو بريء من تجاهل بعض المتطرفين من أتباعه، ففي هذا الشأن، التعاليم هي التي تحاكم التاريخ وليس العكس.
إن القرآن الذي هو مصدر التشريع وهو المقر بصدق كل الرسالات السماوية وعلى دعوة أهلها إلى كلمة سواء وعلى طلب الحق وتحصيل العلم به ونبذ التقليد المحبط وتقديس السلف، قد فتح كل الأبواب أمام أتباع النبي محمد عليه الصلاة والسلام للتعايش مع الشعوب ذوي الحضارات والأديان السماوية والأخذ بمبدأ التعدد والتسامح والاعتراف وتحقيق العدل بين كل البشر وتوخي المقاصد الإنسانية والقيم المشتركة، التي هي الأمور التي ينطلق الإنسان من ذاته أو من ركائز عقيدته ليعطيها قيما معنوية مطلقة تؤثر من خلالها على كل مسيرته الحياتية. ولا يمكن أن يتسم أي مذهب أو تخطيط أو حتى مجرد سلوك بالسمة الحضارية إلا إذا اتسم بالصفة الإنسانية وهي تلازم الإيمان بمجموعة من القيم المطلقة والمشتركة؛ والسمة الثابتة المميزة هنا هي الفطرة الإنسانية والإيمان بها يفسح المجال للحديث عن جملة مفاهيم من قبيل مفاهيم “الحقوق” و”التكاليف” و”العدالة” و”الإنسانية” و”الأخلاق” و”الذوق الفني العام” و”القيم المشتركة” و”الحضارة” و”الحوار” و”الدين” و”المعرفة” و”التصديق” إلى غير ذلك؛ وهناك تلازم تام بين المسيرة الحضارية الإنسانية التعبيرية وعملية الحوار والإيمان بالقيم المشتركة والمطلقة، ومن ثم كانت عملية الحوار ممكنة بين الأديان ممكنا لأنها:
1- تؤمن بنظرية الفطرة الإنسانية وتوابعها.
2- وبقيم مشتركة كثيرة حتى ليلمح الإنسان تطابقا تاما في أصول القواعد
3- وبما أنها تشكل روح الحضارات فإن الحوار بينها يفسح لحوار حضاري أصيل يمتد إلى مختلف المساحات الحياتية ويوجه الحوار الحضاري نحو مسارات أكثر إنسانية؛ ثم إن منطق العقل يقتضي أن يسود منطق الحوار بين الحضارات لأنها تحمل بشكل واضح بصمات الفطرة، اعترفت بها بشكل فلسفي أو رفضتها في مواجهة مقتضيات العاطفة الجامحة والعصبية المقيتة والانحباس في بوتقة الماضي.
فالحوار إذن هو مقتضى الترابط ووحدة المصير الإنساني وإذا لم ينتج عنه نتائج ملموسة فإن ذلك راجع بالأساس إلى عدم اكتشاف خصائص ومميزات وقيم الحضارات الأخرى، وهذا ما نستنتجه في الحملات الانتخابية الغربية وكتابات بعض صحفييهم ومفكريهم التي فيها تجن كبير وتجاهل واضح لروح الإسلام وقيمه ومثله السمحة؛ وبناء على ذلك فمصطلح حوار الحضارات يكاد يفرغ في بعض الأحيان من معناه لأنه لا يقوم أيضا على أساس من احترام الخصوصيات الدينية والثقافية لكل الحضارات والشعوب، فالحوار يبقى رهينا بمبدأ التعارف المسبق وتصحيح المفاهيم الخاطئة والمغلوطة التي تكون قد تكونت بفعل عوامل تاريخية متعددة؛ ومن هنا فان من أكبر أسباب عدم نجاح كثير من لقاءات الحوار الحضاري والديني التي تعقد، بين الفنية والأخرى، بين الجانب الإسلامي والجانب الغربي كون هذا الأخير - وباعتراف عقلائه ومنصفيه - لم يستطع حتى الآن تمثل قيمة الإسلام الحضارية وسمو مبادئه وتعاليم الروحية التي تدعو إلى السلم والأمن والتسامح مع الذات ومع الآخر، ولكن لا يجب أن ننسى أن من بين أهداف الحوار التعارف، ففي تبادل وجهات النظر استهداف للتوافق أو قل للتعارف عن طريق الحجة.
وهناك إشكالية فرض الغرب لمسار أحادي في الحوار بين الحضارات والثقافات، فإذا لم تنجح مجتمعات الجنوب في إعداد هذا الحوار إعدادا سياسيا وجديا، فسيكون من السهل على الدول الصناعية استخدامه لتغطية هربها من المسؤولية الدولية مقابل أرضاء المسلمين والجماعات الثقافية الضعيفة الأخرى ببعض التنازلات المعنوية في ميدان الاعتراف الشكلي بقيمة الحضارات الأخرى غير الأوروبية وحقها في التعبير عن نفسها أو في تطبيق قيمها داخل المجال الخاص؛ ويحذر الأستاذ برهان غليون في إحدى كتاباته من مغبة السقوط في فخ الصراع على الهوية أو نزاع الهوية عن طريق المقارنة أو المفاضلة بين منظومات القيم الحضارية متعددة الجماعات أو إثبات خصوصية القيم الثقافية لكل حضارة وتأكيد ضرورة احترام الحضارات الأخرى لهذه الخصوصية، “فلا يمكن للهوية أن تكون موضوع حوار أو مفاوضات، كما لا يمكن للثقافات والديانات أن تقبل بأن تشكل موضوع مساومة ولا موضوع تفاهم، فهي قائمة كليا على مسلمات وموروثات واعتقادات ولا يمكن التشكيك فيها أو وضعها موضع التساؤل من دون المغامرة بزعزعة الأركان الأسطورية التي تقوم عليها أي ذات جماعية”. وأظن من جهتي أن الخصوصيات الثقافية أو المسلمات الثقافية يمكن الاستناد إليها في حوار الحضارات والثقافات لا كسبيل للمفاضلة بين منظومات القيم الحضارية ولكن كعامل من عوامل التعارف وإزالة غواشي اللبس والجهل عند الطرف الآخر أي دخولها في نقاش وتداول للآراء بقصد التقريب بين المواقف ووضع حد للقطيعة.
صحيح أن الحديث عن الهوية يعكس “هواجس نفسية أكثر مما تعبر عن الشعور بالمسؤوليات الدولية” كما يكتب الأستاذ برهان غليون ولكن الأنجع أن تعبر عن الهواجس النفسية وعن الشعور بالمسؤوليات الدولية، لأن المشكلة تكمن إجمالا في عدم التعارف وسيادة الجهل المتبادل والفهم المغلوط أو ذيوع الصورة النمطية المشوهة للحضارة الأخرى، وخصوصا تجاهل الشعور بالمسؤوليات الدولية أو لنقل التغاضي عنها ورمي المسؤولية على الآخر المستضعف لإخراج الحوار من دائرته الفطرية وإعطاء غطاء لبعض السياسات الدولية، فالغرب يحمل عبء هذه الأوضاع وأسباب تطورها إلى الخصوصيات الحضارية، ويتجاهل دور السياسات الدولية الواعية والمختارة، في الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية معا، وما قادت إليه من إدماج العالم في حركة واحدة، وما نجم عنها من توزيع غير عادل للموارد المادية والمعنوية معا؛ وهذا الكلام هو جزء من اللا توازن الحواري الذي تسعى بعض الأوساط الغربية إلى فرضه وهو الذي يجب كشفه ومحاربته.