انتهى معرض الكتاب في الرياض بهدوء ودون مشاغبات، بعد أن شعرَ المشاغبون (المُفترضون) مبكراً أن الحزم هو القرار الذي اتخذته الجهات المعنية بضبط النظام تجاه شغبهم وتعدياتهم. وليس لدي أدنى شك أن الحزم الذي ووجهوا به في مهرجان الجنادرية الأخير كان سبباً رئيساً لغياب شغبهم عن معرض الكتاب، رغم أنهم (تعوّدوا) على مثل هذه المشاغبات أو الاحتجاجات أو الإزعاج في معارض الكتاب الماضية؛ وهذا ما يؤكد أنهم مجموعات قليلة، وهامشية، لا تُمثِّل المجتمع بقدر ما تُمثِّل فئة مُسيسة تريد أن تفرض وصايتها على المجتمع، وما يجب أن يقرأ، وما لا يجب أن يقرأ، بالقوة.
هؤلاء الفئة هم إما لا يعيشون العصر، وبالتالي لا يدركون أن المنع ومصادرة الحريات والوصاية قد مضى زمنها إلى غير رجعة، وأن وسائل الاتصالات المعاصرة قد ألغت الحدود بين الشعوب والثقافات؛ أو أنهم يدركون ذلك، إنما يريدون أن يُمارسوا دور حكومة افتراضية داخل الحكومة، أو إلى جانبها بشكل موازٍ؛ وهذا ما أظنه الأقرب.
ولا أجد أحداً أساء إلى الاحتساب مثلما أساء إليه هؤلاء المشاغبون بتصنيف أنفسهم، وشغبهم، على أنه (احتسابٌ) ونصيحة وعمل يريدون به وجه الله تعالى. فقضايا الفكر لا يُمكن أن تُواجه بالقمع والمنع والحجب والمصادرة وإنما بالفكر والرأي المبني على الحجة والمنطق والاستدلال المقبول والمعقول؛ ولا يخاف من الأفكار إلا من عَدِمَ الرّد، أو افتقر إلى المنطق؛ أو أن فكرته التي يُدافع عنها أضعف من أن تُناقش أو تُشرّح أوحتى تُنقد؛ فكل من كان مقتنعاً بما يقول، متأكد من أنه الصواب، أو حتى الأقرب إلى الصواب، فلن يخاف من أن يسمع الرأي الآخر، ويرد عليه، ويُجابه الحُجة بالحُجة، والمنطق بالمنطق؟ .. لذلك فإن أغلب من يدعون إلى المنع والحجب وقمع الأفكار ومصادرة الفكر هم يعبّرون - دون أن يعوا طبعاً - عن ضعفهم، وكذلك عن عدم قدرتهم على الدفاع عن قناعاتهم؛ فإذا كان لا يصح إلا الصحيح فما الذي يخيفهم من الرأي الآخر؟
سأعود إلى التاريخ قليلاً.. فلم تتعرَّض دعوة إلى التشويه والتحريف وحملات التضليل المغرضة مثلما تعرَّضت إليه دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله -؛ فقد قِيل فيها، وعنها، وعن صاحبها، وغاياته وآرائه وأهدافه الكثير من الأباطيل والتّرهات والكذب، ومع ذلك بقيت، وانتشرت، وتخطت حدودها الجغرافية، ووصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها، وانتهى كل ما قيل عنها؛ رغم أن أضدادها في حينه لم يكتفوا بالرد عليها بالقلم، والكذب، والتّقولات، والتشويه، وإنما جُيّشت الجيوش، وسُخِّرت الأموال، فأتوا إليها في عقر دارها ودكّوا عاصمتها، وخربوها، وقتلوا معتنقيها، وشرّدوا ما بقي منهم. ورغم كل ذلك سقط أعداؤها، وتلاشوا، وبقيت رغم أُنوف كل أعدائها وقوتهم المادية؛ لسبب بسيط مؤداه: لا يصح في النهاية إلا الصحيح؛ والفكر لا يُقمع ولا يُواجه إلا بالفكر؛ فالبلطجة الفكرية، والتي يسمونها زوراً وبهتاناً (احتساباً)، هي في الواقع سلاح الجهلة والمُفْلسين.
ما حصل أولاً في مهرجان الجنادرية الأخير، ثم ما حصل ثانياً في معرض الكتاب، هما تجربتان ثريتان يجب أن نتعلم منهما الكثير؛ فمثل هؤلاء المشاغبين لا يعرفون إلا لغة واحدة هي (الحزم).
إلى اللقاء.