في رحاب القداسة جمع الأخ الكريم د. طلال محمد أبو النور، عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى، أربعين حديثاً نبوياً في فضل مكة المكرمة، والحثِّ على تعظيمها، وخدمة بيتها، واحترام مكانتها العظيمة التي منَّ الله سبحانه وتعالى بها عليها؛ فصارت أم القرى، وسيدة المدائن، والمتميزة بما لم يتميز به غيرها من بقاع الأرض أبداً؛ لأن فيها الكعبة المشرفة، وغار حراء حيث نزلت أول سورة في القرآن، وحيث كان يتحنث أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام، ولأن فيها المشاعر المباركة (عرفة ومنى ومزدلفة)، ولأن فيها بئر زمزم التي فجَّرها الله للرضيع المبارك إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام؛ فشفى بذلك صدر أمِّه المباركة الصابرة هاجر - رضي الله عنها - ولأن الله خصَّها بمضاعفة حسنات العاملين فيها بمئة ألف حسنة عما سواها من المدن.
هنا يتوق كل جهدٍ للموازنة بين مكة المكرمة وغيرها من المدن والقرى. يقول أخونا الدكتور «طلال أبو النور»: اقتضت حكمة الله - عز وجل - أن يفاضل بين الأمم والأجناس، وبين الأزمنة والأمكنة، ورتب على ذلك سنناً وأحكاماً. ومن الأمكنة التي فازت بالحظ الأوفر من الفضل والعظمة أم القرى «مكة المكرمة». وكنت قد جمعت مع انطلاقة مشروع تعظيم البلد الحرام، الذي تبنَّتْه جمعية مراكز الأحياء «فرع مكة المكرمة»، أربعين حديثاً من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في فضل هذه البلدة المباركة، والأحكام الخاصة بها، وسميتها بـ»الأربعون المكية»! ثم سرد في كتابه الأحاديث الأربعين شارحاً شرحاً مختصراً واضحاً ألفاظها ومعانيها، ممهِّداً لكل حديث بمقدِّمة توضِّح معناه العام، مع بيان معاني الكلمات التي قد لا يعرف معناها القارئ المعاصر لبعد الشُّقَّةِ بينه وبين لغة القرآن بعد طُغيان العاميات، ورطانات الأعاجم على ألسنة أبناء العرب، إضافة إلى ما قدَّمه الدكتور طلال من بيان المعنى الإجمالي للحديث، والفوائد المستنبطة منه، والتطبيقات العملية التي وردت عن السلف الصالح في تعظيم هذا البلد الحرام.
عمل مبارك مفيد، نحتاج إليه لنغرس به حُبَّ مكة عملياً في نفوس الأجيال، وهم - بإذن الله - قريبو النفوس مما نريد إذا أعدنا إلى أذهانهم معنى مكانة مكة المكرمة، ومعنى تقديرها وتعظيمها.
رأيت شاباً في حيِّ العزيزية واقفاً على الرصيف، وفي يده «سيجارة» ينفث دخانها كثيفاً متراكماً على تقاسيم وجهه، وكأنه لا يريد لأي ذرَّة من ذرَّات تلك السيجارة أن تفوت عليه؛ فهو يملأ بدخانه الخبيث فمه وصدره، ويبخِّر بها وجهه وملابسه. وقفت قريباً منه وسلَّمتُ عليه؛ فدسَّ سيجارته وراء ظهره وردَّ عليَّ السلام. قلت له: أنتَ شابٌ مسلم وضيء الوجه، وتسكن بلداً طيباً مباركاً، كرَّمه الله وعظمه، ألا ترى أنَّ هذه السيجارة الخبيثة - مع ما فيها من الضرر المحقَّق - لا تناسب هذا المكان؟ فما كان منه إلا أنْ ألقاها أرضاً وداسها بحذائه وقال بلهجته «إلا والله إنَّك صادق». قلتُ له: أنت وأنا وكلّ مسلم مَنَّ الله عليه بالإسلام أوْلى بأفواهنا السِّواك وليس التُّنْباك؛ لأننا نتلو القرآن الكريم، ونذكر الله، ونصلِّي على رسوله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم. قال: صدقت والله. ثم انصرفت عنه وأنا في غاية السعادة بهذا الموقف.
مما أورده المؤلف في كتابه الحديث الذي أخرجه مسلم في صحيحه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما كان، وهو يأرِزُ بين المسجدين كما تَأْرِزُ الحيَّةُ في جُحرها». ومعنى يأْرِز يجتمع وينضم بعضه إلى بعض، والمراد بالمسجدين مسجدا مكة والمدينة.
في الأربعين المكيَّة فائدة كبيرة؛ فجزى الله مؤلِّفه خيراً.
إشارة:
هنا لغـة الشـموخ فلا مكان
هـنـا لحروف ذُلٍّ وانْهزامِ