قبل عشرة أيام نُشِر في صحيفة الحياة أن مجموعة سعودية للتعليم أقامت تحالفاً مع شركة كويتية تعليمية بقيمة مليار ريال لإقامة مدارس وحضانات عالمية عام 2012م. وقيل: إن اهتمام السعوديين بالتعليم الأجنبي في السعودية
زاد بمعدل 40% بعد السماح للطلاب السعوديين بالانضمام إلى المدارس العالمية قبل عامين تقريباً. وإنه من المتوقع أن يزيد عدد السعوديين في تلك المدارس بنسبة 100% مطلع العام الدراسي القادم، ويصبح عدد المدارس مئتين بدلاً من العشرين حالياً. ومما قيل في نهاية ما نُشِر: و”بالنسبة للمخاوف حول غياب اللغة العربية في المدارس العالمية: إن العربية لغة أساسية تدرس لذاتها (هكذا) مع علوم الدين فيما اللغات المعتمدة في تدريس المواد الأخرى وهي الانجليزية والفرنسية تؤهل الطلاب لدخول الجامعات الغربية”. والجملة الأخيرة واضحة الدلالة على أمرين: الأول أن اللغة العربية، التي هي ركن أساسي لهُويَّة أُمَّتنا، لم يعد ينظر إليها إلا نظرة دونية؛ إذ لا تدرس إلا لذاتها وليست أداة وصول إلى المعرفة بمختلف فروعها. والثاني أنه قد أصبح هناك اقتناع بأن التعليم في مهبط الوحي ومهد العرب ولغتهم، التي استطاعت في قرون مضت أن تستوعب حضارات الأمم المتعددة وتصهرها في بوتقة حضارة عربية إسلامية أداتها لغة أُمَّتنا، تعليم لا يرجى نجاحه بدليل أن الهدف من التعليم أصبح تأهيل الطالب القادم من جزيرة العرب لدخول الجامعات الغربية.
وموقف مجموعة تعليمية سعودية وشركة تعليم كويتية ليس بغريب. فالهدف الواضح الحقيقي لكل منهما هدف تجاري. ومهما سُمِّيت المشروعات بأسماء جذَّابة فإن منها ما هي بعيدة عن مراعاة أركان هُويَّة أُمَّتهم. ومن علامات الانجراف وراء التأمرك أنه قد كثر استعمال بعض المذيعين والمذيعات في إذاعة وطننا العزيز كلمات انجليزية بدلاً من العربية؛ مثل “مَسجات” بدلاً من رسائل. ولقد سمعت في هذه الإذاعة قبل شهر تقريباً مقابلة مع مواطن ذكر بأنه قد كوَّن جمعية حث الشباب على الانضمام إليها - ونجح في كسب كثير منهم - هدفها أن تكون المحادثات على المستوى الشعبي اليومي باللغة الانجليزية.
وكنت قد نشرت في صحيفة الجزيرة، عام 1425هـ - 2004م، مقالة من أربع حلقات عنوانها: “أمركة منطقتنا الإسلامية”. ومما تناولته في تلك المقالة ما رَوَّجت له أمريكا حينذاك تحت اسم “الشرق الأوسط الكبير”. ورَكَّزت الحديث على الجوانب السياسية والاقتصادية من الأمركة. وفي السادس عشر من ربيع الأول، عام 1426هـ - 2005م، نشرت مقالة بعنوان: “الجانب الثقافي للأمركة”. ومما قلته فيها: “محاولات النيل من اللغة العربية الفصحى ليست وليدة هذه الأيام المُكفهرَّة بالنذر. ذلك أن دعوات ظهرت قبل عقود تنادي بالكتابة بالعامية. بل إن أحد كتَّاب دول مجلس التعاون تحديداً نادى بترجمة القرآن الكريم إلى اللهجات الدارجة. وظهرت دعوات لكتابة العربية بحروف لاتينية. وقد فشلت تلك الدعوات في حينها فشلاً واضحاً. على أن المتغيِّرات المستجدة المُتمثِّلة في هيمنة أمريكا على كثير من مجريات الأحداث في المنطقة وفي العالم تنذر بالخطر... ويكاد يكون متزامناً مع ذلك ارتفاع أصوات بإنكار دور أُمَّتنا الحضاري الإنساني، والمناداة بأن يكون التعليم بالانجليزية بدلاً من العربية. وفي جو كذلك الجو قدَّمت الإدارة الأمريكية مشروعاً زعمت أنه لتحديث اللغة العربية؛ وعلَّلت ذلك بأمور أكثرها غير صحيح. وكانت نتيجة ما تَوصَّلت إليه في ذلك المشروع أنه لابد للتطوير من إلغاء المناهج القائمة، التي تعتمد على دراسة اللغة والنصوص المتشابهة؛ مثل الشعر القديم المنتهي بقافية واحدة، وإلغاء ما تتضمَّنه العربية ومناهجها من توجيهات ومبادئ دينية قد لا تَتَّفق مع بناء تواصل مع غير العرب. واختتمت تلك المقالة بالقول:
“لا أظن مضمون مشروع الإدارة الأمريكية المتصهينة يحتاج إلى إيضاح وتعليق. ومع وضوح مغالطاته ومراميه الشرِّيرة فإن النار قد تحدث من مستصغر الشرر. وقد يَتلقَّف هذا المشروع - بشكلٍ ما - من يَتلقَّفونه من العرب. ذلك أن من أفراد أُمَّتنا من هم أشد وبالاً عليها؛ ديناً وحضارة، من أعدائها المنتمين إلى أمم أخرى؟.
وفي عام 1431هـ- 2010م نشرت في صحيفة الجزيرة مقالة بعنوان: “العربية والحديث ذو الشجون”. ومما قلته فيها: “إني لأرى جسد هذه الأمة أخذت تَدبُّ فيه هشاشة العظام، وأن أركان هُويَّتها - وفي طليعتها لغتها العربية - بدأت طريقها إلى التهاوي؛ مكانة معنوية وواقعاً معاشاً. وإنه لجميل ومبهج أن نرى جهوداً لنشر اللغة العربية في أقطار غير عربية، لكن من المؤسف المحزن أن نرى أمضى السهام المُوجَّهة إلى كيان هذه اللغة تنطلق الآن من أناس قَدَّر الله أن يكونوا أهل مهدها الأوَّل. وإن ما هو حادث في جزيرة العرب، مهد العربية ومهبط الوحي المنزل بلسان عربي مبين، أمر مأساوي مُتعدِّد الوجوه المُخيِّبة للآمال”.
قبل أن تَستقلَّ الأقطار العربية، التي ابتليت بالاستعمار الغربي، كان المستعمر هو الذي يفرض أن تكون لغته هي اللغة المستعملة في التدريس. وبعد أن ارتحل المستعمر شكلياً من تلك الأقطار أصبح يوجد من المسؤولين الوطنيين فيها المُتولِّين وزارة التربية والتعليم في أكثر الأقطار العربية مُتحمِّسون لأن يكون التدريس بلغة غير عربية. في عام 1981م قَرَّر وزارة الصحة العرب أن تكون اللغة العربية - في غضون عشرين عاماً - هي لغة التدريس لجميع المواد وفي كل المراحل الدراسية. لكن قرار أولئك الوزراء كان قبل أن يَحتلَّ المتصهينون في أمريكا وبريطانيا العراق ظلماً وعدواناً؛ ليصبح وضعها الحقيقي وضعاً أسهم المحتل في جعله غارقاً في نفوذ جهة غريبة الوجه واليد واللسان. ما الذي حدث لأُمَّتنا بعد قرار وزراء الصحة العرب المشار إليه سابقاً؟
في جزيرة العرب، مهد اللغة العربية ومهبط الوحي المُنزَّل بها، أرى بعيني ملامح المأساة. ومن هذه الملامح تغيير التدريس في الجامعة الأم في قُطْر من أقطار هذه الجزيرة من اللغة العربية إلى الانجليزية، وسُمِح في قطر آخر من أقطارها- وربما في غيره أيضاً - بأن يكون التدريس في المدارس غير الحكومية - وإن كان تلاميذها عرباً مواطنين - بلغة أجنبية؛ ابتداء من السنة الأولى الابتدائية. ذلك أنه قد خُيِّل - مع الأسف الشديد - لبعض مَنْ في أيديهم مقاليد الأمور التعليمية والتربية أن التقدُّم المعرفي مرهون بأن تكون اللغة المستعملة للوصول إلى المعرفة لغة غير عربية. ولم يدرك أولئك - فيما يبدو - أن أُمَماً في الشرق بينها- اليابان وكوريا حَقَّقت تَقدُّماً عظيماً في تدريس كل المواد وفي جميع المراحل الدراسية بلغتها القومية. بل إن الصهاينة بعثوا الحياة في لغة كانت ميتة قروناً عديدة، وأصبح يُدرَّس بها في كيانهم العنصري المغتصب لفلسطين جميع المواد وفي كل المراحل التعليمية، ولم يقف هذا حائلاً دون تَقدُّم ذلك الكيان علمياً وتقنياً.
تعليم اللغة الأجنبية أمر مفيد، لكن جعل هذه اللغة الأجنبية هي لغة التدريس في مدارس الأقطار العربية دليل واضح على نظرة دونية إلى اللغة العربية التي هي لغة أُمَّتنا القومية، وأمر مناقض تماماً لما قَرَّره الزعماء العرب، وكَرَّروا تقريره، في مؤتمراتهم من وجوب العناية باللغة العربية. قد يقول قائل - وقوله مُسلَّم بصحته -: ما أكثر قرارات زعماء العرب التي لم تُفعَّل! بل ما أكثر قراراتهم التي عُمِل ما يناقضها؛ ابتداء من قرار مؤتمر الخرطوم عام 1967م، رحمه الله ورحم من اتَّخذوا ذلك القرار.
وفي العام الماضي كتبت مقالة من حلقتين عنوانها: “مضايقة اللغة العربية في مهدها” وقلت في مُستهلِّها: من المُسلَّم بصحته لدى الباحثين في تاريخ المجتمعات والحضارات الإنسانية أن اللغة من أهم دعائم هُويَّة الأمة إن لم تكن أَهَّمها. وهذا الأمر المُسلَّم بصحته هو الذي جعل الأمم الآخذة بنواصي التقدُّم والرقي، قديماً وحديثاً، تحرص كل الحرص على المحافظة على كيان لغاتها، والتمسُّك باستعمالها وحدها؛ كتابة وتَحدُّثاً. بل إنه جعلها، أيضاً، تحرص كل الحرص على الدفاع عنها، وعلى نشرها بين أمم ومجتمعات أخرى. ولعل من أوضح الأدلة على هذا الحرص ما بذلته - وما زالت تبذله - كل من فرنسا وبريطانيا في هذا المجال. ومن ذلك أن كلاً منهما بذلت ما استطاعت لِتحلَّ لغتها محل البلدان التي استعمرتها، وحَقَّقت الكثير من النجاح في جهودها؛ إدراكاً منهما بأن فقدان أمم تلك البلدان المستعمرة للغاتها وسيلة فَعَّالة لإضعاف إرادة المقاومة لديها، وبالتالي إضعاف هُويَّتها وجعلها مُتمسِّكة بهُويَّة المستعمر لها. وهذا يوحي بما أشار إليه المفكر الجزائري العظيم، مالك بن بني، وعَبـَّر عنه أبلغ تعبير بعبارة “ قابلية الاستعمار”. ومن ذلك أن فرنسا بذلت جهوداً جَبَّارة في سبيل ترسيخ الفرانكوفونية، وتكوينها لجنة مُتخصِّصة لتدرس بجد قضية تَسرُّب كلمات أو تعبيرات، من اللغة الانجليزية إلى اللغة الفرنسية؛ سواء وردت الكلمات والتعبيرات باللغة المكتوبة أو بالتحدُّث الشفوي، وأن تُقدِّم اقتراحات مناسبة لِصدِّ ذلك التسرُّب أو التخفيف مه في أَقلِّ الأحوال.
وإذا كان الاهتمام القومي قد بلغ ذلك المستوى بالنسبة للغات حديثة النشأة والتطوُّر نسبياً فكيف لا يكون الاهتمام أعظم بالنسبة للغة العربية، التي لم يَتكدَّر صفو معينها منذ خمسة عشر قرناً؛ إذ ما يزال المرء يقرأ ما كتب بها، أو يسمع ما قيل بها، في القرن الأول الهجري؛ شعراً أو نثراً، فيفهمه فهماً واضحاً. أَفليس من المفارقات أن يرى المرء أُمما مسلمة غير عربية تتسارع الآن إلى فتح المدارس لتعليم اللغة العربية في بلدانها - وهو أمر يَسرُّ غاية السرور - ويرى سكان مهبط الوحي ومهد العرب والعربية يسارعون إلى التأمرك باتِّخاذ خطوات تَدلُّ كل الدلالة على أنهم أصبحوا ينظرون إلى لغتهم نظرة دونية؟