يسمع الناس كثيراً الحث على لزوم (التقوى) في الخطب والمواعظ والنصائح والدروس والوصايا، لكن الواجب تطبيق معناها، وهو شديد على النفس إلا من وفقه الله لذلك، وفتح قلبه لاتباع هدى ربه الذي هو كتابه وسُنّة نبيه صلى الله عليه وسلم {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى}. وليست التقوى كلمة تجري على اللسان أو تقرع الأسماع أو تردد بالكلام، بل هي قول وعمل واتباع، ومجاهدة للنفس على تحصيلها في كل الأوقات، وعند عوارض الشهوات.
وأصل التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تقيه منه؛ فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقاية تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معصيته.
ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات، كما عرفها طلق بن حبيب بقوله: التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله (جامع العلوم والحكم لابن رجب 1-398).
وليس من طريق لكل عاقل أن يتخلص من الغموم والهموم النازلة به إلا أن يتحلى بزينة التقوى؛ فهي سبب للمخرج من ذلك، كما قال جل ذكره {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}؛ فإنه لا تنزل بالإنسان شدة ولا يحصل له ضيق وقلق إلا إذا انحرف عن طريق التقوى، أما الملازم لطريق التقوى فلا آفة تطرقه ولا بلية تنزل به، بل يكون الله كافيه وحسبه، ولا يعلق قلبه بالأسباب بل يفعلها ولا يعتمد عليها {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّـهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
وليعلم العاقل أن الزمان لا يثبت له على حال، فتارة فقر، وتارة غنى، وتارة عِز، وتارة ذل، وتارة صحة، وتارة مرض.. وهكذا. فالسعيد من لازم أصلاً واحداً على كل حال، وهو تقوى الله - عز وجل - فإنه إن استغنى زانته، وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر، وإن عوفي تمت النعمة عليه، وإن ابتُلي حملته، ولا يضره إن نزل به الزمان أو ارتفع أو شبع أو جاع؛ لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير. والتقوى أصل السلامة، وحارس لا ينام، تأخذ بيد العبد عند العثرة، وتوقفه عند حدود الشرع، وتمسك بيده فتحفظه عن الوقوع فيما حرم الله تعالى عليه (ينظر صيد الخاطر لابن الجوزي).
ويتأكد على العاقل لزوم التقوى في هذا الوقت الذي كثرت فيه دواعي الشهوات والشبهات المضللة عن الدين، وكثر فيه الحسد والتنافس على الدنيا والاغترار بمتعها وزخارفها الزائلة، فتكون التقوى له حارساً من كل هذه المخالفات، فلا يرى في الضيق إلا السعة، ولا في المرض إلا العافية، ولا في متع الحياة إلا الزهد والقناعة.
ولملازمة التقوى في كل حال ثمرات وآثار حميدة من محبة الله للمتقي ونصره وتأييده، وقبول عمله، ومدح الله له، وصلاح عمله وغفران ذنبه والبشرى له بالسعادة في الدنيا والآخرة والأمان من الخوف والفوز بالجنة والتفريق بين الحق والباطل.. فطهارة القلب وسلامة الصدر ولزوم التقوى أصل السلامة في الدنيا والآخرة.
وكيل جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية