سنوات تنحت في العمر، وأيام تشبه القطار السريع، تنقل المآسي في لواعج النفس، وملل يتقاطر من السماء كالبرد، يجلد قلب «أبو فايع» بقسوة، لقبه الذي لم ينجبه من عقمه السرمدي، فلم يُعرف له ولد! يحيا حياة تصطخب ناراً تتقد في جوفه، والكل يقذفه بلسانه، كأنه يواجه ذهول الموت، كل الأشياء ترمّدت في حدقاته، فكم دعكها بحرارة الدموع حتى احمرت عيناه من الحزن فهو سقيم، فقد هرم سريعاً، وشاب شعره، حبيس في غرفة قديمة أهديت له من رجل مات كلالة، كان صديقاً له منذ الطفولة، يعدّ شعرات الشيب البيضاء عداً؛ فهي في تزايد عجيب يوماً بعد يوم، مثل تزايد سنواته عندما يقف كئيباً أمام مرآته المتصدعة، يناجي نفسه خفية، ويتحسر على سوء حظه التعيس:
- حتى غرفة سقيمة ملك لي، من حُرّ مالي عز علي أن أجدها.. وما إن سمعته (صالحة) شريكة فقره الوحيدة، هي في مثل عمره، حتى رق قلبها، وتمنت أن تتخطى عتبة الكنز المسحور، لتجد الفانوس السحري، وتحقق أمنيات زوجها، لكنها لا تجد إلا الدموع تكتنف حياتها المترعة بالبؤس منذ زمن، حاولت التخفيف عنه، بكلمات تبعث فيه الروح والأمل:
- هوّن عليك. كل شيء له حل بإذن الله..
قاطعها بعجب ساخر، ويأس يطعن قلبه الضعيف:
- إلا مشكلتي. إلا مشكلتي، يا صالحة..!!
- نحن أفضل حالاً من الذين يسكنون العراء.. قالتها صالحة لجبر خاطره المنكسر.
لا فرق بيننا، الحرمان واحد وإن تعددت أشكاله، العمر لن ينتظرنا لكي تتحقق أحلامنا، لا ولد يجاهد فينا ولا بيت يدثرنا من وحشة الهرم..
ثم تكور في صمت مع الحزن، ينفث الآهات الشقية، بينما مكثت صالحة تربت عليه بألم، وأحاسيسه بكل الأشياء المقيتة تجري في عروقه، حتى إنه أصبح يتخطى بحذر خشية أن يصطدم عقله بأحد عمار الأرض، فيسقط في درك الجنون من شدة التفكير والهذيان، بل إنه أخذ يقنع نفسه بالبقاء دون شعور حقيقي بالحياة، لا يروم خطوة نحو الاستقرار في غرفٍ ثلاث تليق به، تسمى منزلاً، حلمه العقيم القديم، مثل سائر البشر، فهو يعد البيت وطناً ثانياً له، لكنه مسلوب من وطنه كما هو حال بعض شعوب الأرض.. فقد أعجزه اليأس، كل شيء أصبح يدعو للعبث، مل غرفته الكئيبة تلك مع حسرات زوجته المتزفرة والمتأففة دوماً، حتى كلمات الحب بينهما أصبحت سخيفة، من هول المأساة السكنية، يعيشان فيها مذ تزوجا قبل خمسة وعشرين عاماً، كانت الغرفة هدية من صديقه يوم زواجه، تلك الغرفة الموحشة التي يتسلق جدرانها دود الأرض، وأصبحت تنثر قطرات المطر على رأسيهما كالغربال، عصرتهما حتى اختلفت أضلاعهما مثل تابوت الموتى..
حدق وتأمل كثيراً في بقايا الغرائز والاستهلاك اليومي، فقد خسر كثيراً لأجلها، تعجب بأسى فأوراقه المالية الزهيدة التي ترمى له كالفتات اليابسة نهاية كل شهر لا تكاد تكفيهما الكفاف، مقابل عمله الكادح كل يوم، في المدرسة الصغيرة، يكنس الأرض، ويصنع الشاي، ويقوم بأعمال أخرى كثيرة مرهقة، فهو مستخدم كما هو مسمى وظيفته.. ما إن يتذكر الحال حتى تفيض عيناه دموعاً تحمل الحسرات، فلا يزال الفقر يمتص دمه كالبعوض، كانت السآمة حقنة يفرغها في جلد الساعات الميتة، فكل يوم يمرق من عمر (أبو فايع) يُعد رحلة جديدة في أعماق الغربة، فهو عند الغروب يقضي على ملل الوقت بأن يتأمل الشمس دموية وهي تغرق في سفوح الجبال، والكآبة الرخوة تغزو القرية المتعبة، قيود من العوز عاثت في سبيل أمنياته، أمنيته فيما يسمى (منزل أبو فايع) ولو بالأجر الشهري.
كان بلاط المنازل الحديثة يلمع في ناظريه بألوان جذابة مزخرفة، فأحدث ذلك في قلبه الحسرة، وعندما قررا أن يجوعا وأن يستأجرا منزلاً صغيراً، حاول أن ينجح من أجل مساحة يقضيها في سعادة مع زوجته، قبل التفاف الساق بالساق، وغرغرة الحناجر، وتوسد كومة من طين تحت خده الأيمن كالعجين، ثم ينتهي أبو فايع كأن لم يكن، فقد شاهد الجَمال الذي بهره في حجرات مكعبة كالورق الأبيض، وقوالب الثلج، وأبواب ونوافذ رائعة تشبه لوحات الرسامين العالميين، وصوت الإذاعة المدرسية يتردد في أدغال ذاكرته، الفقراء لا ينتصرون، والحسنة بعشر أمثالها، وذهب أهل الدثور بالأجور، ومن فرّج عن مؤمن كربة.. من أحاديث الصبية في طابور الصباح، كل ذلك جعلة حبيساً للفاقة التعيسة.
حاول الصمود، وتناسي كآبة الواقع ولوك الألسن له، فقد هبت عليه ذات مرة نسائم الانتصار كالسراب، واعتراه فرح عارم للحظات بخيلة، تحول بعدها إلى مومياء قديمة لا يروم حياة، سرعان ما تحشرج بكلمات الإحباط والهزيمة والانكسار، مصطدماً بجدار كالطود العظيم، فقد كان الأجر، الذي سوف يدفعه لو استأجر، إتاوة ثقيلة ثمنها دمه والذل، تكسر الظهر، لا يقدر عليها.. وعندما يعود من جولة البحث اليائسة، تقبع صالحة في انتظاره على أريكة من أمل وتفاؤل، لكنها لا تمكث طويلاً حتى تقرأ حروف الفشل ظاهرة على محياه كالخسوف، فتبتسم له بحزن مقنع، وقلبها ينزف ألماً داخلياً.