هذا الإنسان الذي كرمه ربه، وفضله على كثير مما خلق، فيه من العجائب والأسرار الشيء الكثير، كما يقول بعضهم بأنه سرّ الأسرار، وكل جزئية فيه تبرز قدرة الله في خلقه، خذ مثلاً المفاصل:
فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته بالاستغفار، والإنابة إلى خالقهم وحبّب ذلك إليهم بقوله الكريم: (لو
لم تذنبوا لأتى الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) وجعل لنفسه أسوة، فقد كان يستغفر في اليوم والليلة أكثر من مائة مرة، وهو المغفور له ما تقدم وما تأخر، وما ذلك إلا لأثره الواضح في دفع البلاء عن الإنسان.
فما أكثر ما يحصل من حوادث سيارات للناس.. فتحدث أضراراً وكسوراً في القريبين والبعيدين عنهم، فلو زار أيّ واحد منّا مصنع الأطراف الصناعية، أو دور العجزة، أو المستشفيات في أيّ مكان من العالم، لأدرك كم من البشر يفقدون نعماً في أطرافهم ومفاصلهم: في اليدين أو الرجلين أو في أجزاء الجسم بالحوادث، غير من غيبهم الموت في الثراء، وبكل بساطة يقول من حصل له حادث وسَلِمْ: نجوت من الموت بأعجوبة، أو من آفات الحوادث، ولا يحمد الله على السلامة، وكأن هذه الأعجوبة بمهارته وذكائه، ناسياً مدافعة الله، وقدره.
ولا يعترف: قولياً أو فعلياً، بما صرف الله عنه من البلاء، والأقل أن يمتثل بالدّعاء، الذي علّم رسول الله أمته به، لمن رأى مبتلاً: “الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاك به، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً”.. يقوله في نفسه، حتى لا يتأثر الآخر، بل يواسيه ليشعر بترابط المجتمع، ومحبة لبعضهم: “الحمد لله على سلامتك، جمع لك الله الأجر والعافية”.
إذ قد ينتج عن الحوادث: فقدان حاسة اللمس الدقيقة التي أوجدها الله في عضو أو فقدان المرونة في حاسة الحركة في أنامله الدقيقة، التي أوجدها الله بالمفاصل وعصب الجلد الخارجي، كما أن كل واحد منا يحس أيضاً في جميع أجزاء جسمه بالسهولة والمرونة في تغيير الاتجاه والحركة، وهي عند الرياضيين أكثر، وهذا من نعمة المفاصل والنموذج المحسوس في باب السيارة، وباب المكتب والمنزل، حيث تبين الحركة المرنة سهولة الانفتاح والإغلاق التي تتحكم فيها المصلات وهي نموذج في إعطاء المرونة واليسر في الانفتاح والإنغلاق، هذا في مصنوعات البشر لتيسر أمورهم في الحياة، لتقرب للإنسان ما أودع الله في اليدين والرجلين، بل في الجسم من دور تؤديه العظام الدقيقة من تيسير وأداء الدقة في مرونة المشي بالنسبة لمفاصل القدمين، والدقة في التقاط الأشياء مع المرونة في الكتابة بالنسبة للدين.
وكلّما حصل خلل في هذه المفاصل بأيّ سبب، عوض الله بما جانب آخر، فضلاً منه، إذ يروى في التاريخ أن رجالاً كانوا كتّاباً عند بعض السلاطين، فلما تغلب عليهم خصومهم، وعاقبوهم، فمن كان يكتب بقطع اليدين أو اللسان، فعوضهم الله بقدره على مسك القلم، بالفلم ليكتب، وأخر صار يكتب بأصابع الرجلين وتمسك القلم، لأنّ الله سبحانه ما يقطع من جانب إلا ويعوض من جانب آخر سبحانه.. وكم سمعنا عن أصحاب العاهات المستديمة، ومن لا يدب إليهم اليأس.
والمفاصل في جسم الإنسان، تزيد عن سبعين مفصلاً، هي التي تعطي الجسم سرعة في الحركة، ومرونة وليونة، كما أن مفاصل العظام ومواطن التحامها في العمود الفقري، وفي عظام الرقبة وغيرها، لها خاصية في الحركات، والمساعدة في راحة الجسم وتحمّله، ولولا، هيأ الله من مفاصل في الجسم، لتعطلت الحركة وفقد التوازن، فسبحان من خلق فسوى وقدر فهدى، وهذه المفاصل في جميع الكائنات الحية مهما صغرت أو كبرت، وتؤدي الدور المطلوب منها، بقدرة العزيز الحكيم كالإنسان.
ولذا فإن جميع الصناعات، بدءاً بالأشياء البلائية، التي أدركها الإنسان الأول، ونهاية بالمخترعات الحديثة، في العربات والمركبات، والأجهزة المتعدة، التي أعطيت مرونة في التحرك يميناً وشمالاً وفي الانثناء والميلان كلها مستقاة مما أودع الله في الإنسان، وفي حركات جسمه، لكن هذه المخترعات التي أدركها الإنسان قصرت عن تأدية ما هيأه الله في الإنسان، من عمل مهما بلغت من دقة الصنعة، وقوة التحمل والصبر، والمادة التي أودعها الله {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } (النمل 88). وهذا مما يجب أن يزيد المرء إيماناً بربه، وتدبراً فيما كوّن جسمه منه، وهي أمور تدعو لإعمال الفكر، الذي أمر الله بتحريكه، لتوثيق العلاقة بالخالق وجدانياً وعقدياً، لأن الإنسان مأموراً بالتفكر وهو جزء من العبادة.
والله سبحانه يخفف -من رحمته بعباده- عنهم مالا يستطيعونه، بعاهات أو مرض، توهن المفاصل عن عملها، فقد زار رسول الله صلى الله عليه وسلم واحداً من الصحابة مريضاً، وسأله كيف أصلي، فقال له: “صلّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب، فإن لم تستطع فمستلقياً، على أن يؤشر في الركوع والسجود.. وفي حديث آخر: إن الله يقول لملائكته: إذ مرض العبد وسافر، ويدخل في المرض الإعاقة أو الشلل وما يوهن الجسم بسبب المفاصل التي عليها دوران النشاط في الجسم “اكتبوا لعبدي ما كان يؤديه صحيحاً معافى مقيماً”.
إن الأطباء والمختصين يقفون حائرين، أمام واحد من المفاصل إذا تعطل عن العمل لأيّ سبب، سواء كان بكسر في العظام الدقيقة، أو بقطع في العصب المحرك لذلك، والمنظم لعمل المفصل مع ما يليه، أو بتآكل في رؤوس العظام، كالسوس مثلاً، أو بجفاف المادة اللزجة الملينة للمفاصل، والتي هي بمثابة الزيت أو الشحم في المحركات الحديدية، وقد يكون سبب ذلك في البداية من أمراض الطفولة كالكساح، الذي لم يعالج مبكراً لأيّ سبب، فتكون مرضاً ملازماً للمرئ بعدما يكبر.
فتكبر حيرة الأطباء، لعدم استطاعتهم إيجاد بديل لما خلق الله، وأن المواد التي حاول المختصون صنع بدائل عنها في الأعصاب والمفاصل، لتقوم ببعض وظائف تلك المفاصل التي تعطلت عن لعمل لأيّ سبب، في أداء مهمتها ومرونتها، مع دقتها وإحكامها، ففشلت رغم ما يبذل من جهد ومال ووقت، فسبحان القادر على كل شيء ما أحكمه في صنعه، وما أرأفه بعباده، الذي يجعل في الغذاء والحيطة، في بداية الأمر، علاجاً واقياً من حيث لا يشعر المرء، إذ يعيد الأطباء نتيجة هذا الأمر الذي يتحوّل إلى حالة من العجز، ليصبح مرضاً مزمناً يعوق الحركة، لعدم القدرة على اختراع المادة اللزجة فلولا ما أودع الله من العظام الكثيرة، في الجسم البشري، التي تزيد عن سبعمائة، من مواد تلتحم بها، كالأعصاب والغضاريف، وما فيها من لزوجة مرنة، تسهل الحركة، والإنسان غافل عن مهمتها وعملها، لما استطاع الإنسان أن يمشي أو يكتب، أو يأكل أو يتصرف أيّ تصرف يرد عنه ما جاء في سائر جسده، حيث يتحول الجسم إلى هيكل مُصْمَتْ كالدمى التي تلعب بها البنات الصغيرات ونحوها، التي ليس فيها من مقومات الحياة والحركة في أعضائها شيء.. فهل يمعن الإنسان فكره جيداً، في ما أفاء الله عليه من مقومات الحياة، وما أعطى من نعم كثيرة وكبيرة، ولا يتمعن فيها إلا بعد فقدها، ألم يقل سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} (34) سورة إبراهيم.
والتّمعن في هذا الأمر، عبادة تستحق الشكر: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى } (2-3) سورة الأعلى.
ثم إن الله سبحانه قد أودع فينا، حركات تلقائية نقوم بها في نومنا ويقظتنا من حيث لا نشعر، تعتبر تمريناً وتدريباً لما في أجسامنا من مفاصل وعضلات، حتى لا يمسها تصلب، وهي من الأسرار إذ في حالة تخلفنا عن ذلك، ولو لفترة قصيرة، تتصلب المفاصل والأعصاب، حيث إن الأعصاب هي التي تعطي المفاصل مرونة الحركة، مما يستدي التدليك والتمرين حتى تعود لحالتها الطبيعية، أو نحن عن هذا غافلوت ولذا ينصح الإنسان بمزاولة المشي والرياضة، أو الأعمال المحركة للجسم، ومن كانت مفاصله وعضلاته، شديدة الوطأة، وتسبب له عدم القدرة على الحركة، أو يتحرك ببطئ فإن الدين الإسلامي فيه تسلية وفرج، وذلك بالصبر والاحتساب بقوله سبحانه: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} (10) سورة الزمر، وهذه عند الصبر على البلوى فقد جاء في تفسير السيوطي هذا الحديث الذي فيه تسلية وأجر، أخرج بن مردوية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله إذا أحب عبداً أو أراد أن يصافيه، صبّ عليه البلاء صبّاً، ويحثه عليه حثاً، فإذا دعا قالت الملائكة، صوت معروف فيقول جبريل: يا رب عبدك فلان اقض حاجته، فيقول الله تعالى: دعه إني أحب أن أسمع صوته، فإذا قال: يا رب، قال الله لبيك عبدي وسعديك وعزتي وجلالي لا تدعوني بشيء إلا استجيب لك، إلا أن قال في آخره: ويؤتى بأهل البلاء فلا يُنصب لهم ميزان، ويُصبّ عليهم الأجر صباً، بغير حساب، حتى يتمنى أهل العافية أنهم كانوا في الدنيا في بلوى، (الدار المنثور ج7، ص215) هذا جانب لمن سَلّم الأمر لله وصبر.
لكن يجب معرفة أن العبادات التي فرض الله، فيها صحة ومحافظة على الجسم، وسلامته من الآفات، ويكفينا في هذا شاهد واحد، يتعلق بالصلاة، فقد سمعت في إذاعة لندن منذ فترة، ثم سمعت مثله في إذاعة قطر، عن طبيب فرنسي فتح مصحاً قرب باريس لعلاج روماتيزم المفاصل لدى المسنين بدون عقاقير، لأن العقاقير تضر بهم، وعند سؤاله عن الفكرة، وكيف بدأت عنده قال إنني مكثت في البلاد العربية بشمال إفريقيا، خمس سنوات أدرس الحالة، واتضح لي هذا المرض المنتشر في الغرب، أكثر منه في ديار المسلمين وبالاستقصاء والتجارب، أرجعت السبب للصلاة والوضوء خمس مرات في اليوم والليلة، وبوقت منظم في كل وقت للصلوات الخمس عند المسلمين، فاتّضح لي أن ماء الوضوء يعطي لهذه المفاصل ليونة، ثم تأتي الصلاة لتنظيم حركات المفاصل في هذه الأوقات المنتظمة. ولذا وبالتجارب تحققت عندي نتائج جيدة، وبان أثرها، فكنت أعالج بالصلاة الخمس وضوء ثم أداء الصلاة في وقتها، فسبحان من قدر ذلك، عبادة وطاعة لله، وصحة لأبداننا.. ورسول الله سئل عن أفضل الأعمال قال: الصلاة على وقتها. والجزيرة نشرت منذ أسبوع اختراعاً لدكتورة في جامعة الملك سعود عن فوائد الوضوء، وقد أسلم كثير من الأوروبيين نتيجة لعلاجه هذا مع محافظتهم على الوضوء والصلاة، خمس مرات في اليوم.