في قراءتي لكتاب (الترجمانة الكبرى) في أخبار المعمور، براً وبحراً، لمؤرّخ الدولة العلوية أبو القاسم الزياني الذي عاش في الفترة من 1147 هجرية حتى 1249 هجرية، وجدت فيه إشارات ذات دلالات تستحق الإيماء إليها، وهو الوزير والسفير والرحّالة للغرب والشرق، حيث التقى في مصر بالمؤرّخ المصري الشهير عبد الرحمن الجبرتي، الذي كانت كتاباته إيجابية عن الحركة التصحيحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب وتبنّيها من قِبل الإمام محمد بن سعود رحمهما الله جميعاً.
وقد حجّ مرتين، مرة مع والده وأخرى في فترة سفارته إلى الدولة العثمانية، ووصف بعض الأماكن الحجازية، ولعلّني أذكر شيئاً مما ورد في الكتاب عن تلك الفترة. حيث يقول: “ولما رجعت من عرفة لمنى نزلت بمحل بعيد من الناس فما شعرت إلاّ والقباب تضرب بجنبي، والخيول والخدام تنزل، فسألت عن ذلك فقيل لي: إنّ هذه قباب الوزير الأعظم يوسف باشا الذي قدم من الاصطنبول والياً بجدة والحجاز، أتى مع الركب الشامي ليحجّ ويتوجّه لجدة، وهو الذي كان وزير السلطان عبد الحميد أيام سفارتي للاصطنبول، وكان لي معه خلة ومصافاة، فقلت لابد لي من السلام عليه، فتربّصت إلى أن فرغوا من ضرب المباني واستقروا بأماكنهم، وأخبرت أنّ الرجل جلس بوثاق جلوسه مع كاتبه وخاصته، وتقدمت للسلام عليه، فلما واجهته وقصدته ورآني قام من مجلسه وصافحني وأجلسني بجانبه، ونادى ترجمانه فحضر، وهو إلى الآن لم يعرفني.
ولما فرغ من السلام قال له: من أي بلد هو الشيخ؟ فقلت له كأنك نسيتني، أبو القاسم الزياني، فقال: هو والله؟! وقام قائماً وقبض يدي وأقامني وعانقني، وهطلت عيناه بالدموع وخرس لسانه عن الكلام فأبكاني وبكيت معه إلى أن شفى غليله، وأشار للقوم فخرجوا، ولم يبق غير الترجمان فجلسنا وقال: أين السلطان عبد الحميد؟ وأين السلطان مولاي محمد؟ تركونا أيتاماً، والله لبطن الأرض أحب إليّ من ظهرها، فقد ظهرت إشارات الساعة ببلادنا، ولم يبق إلاّ طلوع الشمس من مغربنا. وأخبرني بما عليه الدولة العثمانية، وما صار إليه حالها بعد السلطان عبد الحميد وبيعة ابن أخيه السلطان سليم، فقد ذهب من كنت تعرفه في المناصب من أهل المروءة والدين، وتصدر بها الأحداث والسفهاء من المماليك والأعلاج وأطراف الناس، ولقد اخترت تعب النفس عن تعب القلب، وطلبت أداء الفريضة، فلما فهم السلطان سليم عني كراهية المقام بالدولة، أجابني لغرضي، وأكمل غرضه بولايتي جدة والحجاز وحرب الدولة السعودية (لقد أورد لفظاً غير هذا لم أستحسن إيراده واستبدلته بما يليق) حتى لا أعود للاصطنبول، فهان عليّ ما تركته وما شيّدته وما غرسته”.
وأقف عند ما سطّره ذلك المؤرّخ بقوله “حتى لا أعود للاصطنبول” وهذا يعني أنّ ولاية الحجاز في ذلك للزمان ليست محببة لدى الولاة خشية من امتداد الدولة السعودية وانتشار الحركة التصحيحية للإمامين، كما أنّ مقارعة تلك الدولة يتحاشاها الولاة في ذلك الوقت وهو ما دفع يوسف باشا أن يصرح بما في نفسه لزائره المغربي.
كما يجدر بنا الوقوف عند ما ورد في الكتاب في قوله:
فقد أثنى شيخ الأدباء الإمام السلفي أبو الفيض حمدون بن الحاج السلمي، رغم ما حدث من الزياني في جانب هذا الإمام حين جوابه على رسالة عبد الله بن سعود لعلماء تونس التي بعث بها هؤلاء لعلماء المغرب، في شأن مذهب محمد بن عبد الوهاب الذي ظهر إذ ذاك في الحجاز.
وهذا يعني أنّ الزياني لم يكن مقتنعاً بالحركة التصحيحية التي كان يؤمن بها أبو الفيض بن الحاج السلمي التونسي، ولهذا فقد كان منه ما كان، إلاّ أنه مع ذلك استقبله وأكرمه.
لم أشأ الاستطراد، فيما جاء في الكتاب، واخترت منه ما يتعلّق بالدولة السعودية آنذاك، لكنه كتاب يستحق القراءة لما فيه من إضافة رغم ضعف لغته، وإيراده بعض القصص والأخبار التي قد لا يقبلها العقل، ولا تتفق مع المنطق غير أنّ ذلك دأب الكثير، ومن المؤسف حقاً أنّ اليوم يشبه البارحة، عندما تسمع من أقاويل الناس حول السحر والسحرة والحديث عن قدراتهم غير المنطقية، وكذلك ما يتعلّق بالجن وأفعالهم لبني البشر، إضافة إلى ما يرتبط بأذهان بعض الناس من قدرات للموتى وغيرهم، وهو ما لا يتناسب مع النقل والعقل والله أعلم.