الكاتب الملتزم يظل مرتهناً للطوارئ من الأحداث والحوادث, ينتابها كما لو كانت طريدته, والحياة مليئة بالطرائد, وهو معها كـ(خراش) الذي عناه الشاعر بقوله:
(تكاثرت الضباء على خراش.. فما يدري خراش ما يصيد)
والمخلِّص من تزاحم الأَضْداد (فقه الأولويات). فمن لم يع هذا الفقه, تراه يمسك من القضايا ما يليه, أو ما تيسر منها, وعجبي من كُتَّاب أعُدُّهم من المتمكنين, تراهم يرضون من النوازل بما دون المهم, ولسان حال الأمة معهم كحال الشاعر الذي يقول:-
(قالوا اقترح شيئاً نُجِدْ لك طبخه.. قلت اطبخوا لي جبة وقميصا)
ولقد ظننت أن حديثي عن الكراسي العلمية بوصفها ظاهرة جديدة, استبقت إليها جامعاتنا العريقة والفتية من الأخذ بالمهم دون الأهم, وحين أهم بالكتابة تنثال عليَّ القضايا من كل جانب, وكأنها جراد منتشر, ومن ذا الذي لا يغمره طوفان القضايا المدلهمة في ذلك الزمن العصيب, الذي أصبحت فيه كرامةُ الشعوب وأعراضُها ودماؤها لا تساوي عند عَبَدَةِ الكراسي جناح بعوضة, وكاتب لا يتمعر وجهه من أجل أمته المسلوبة أبسط حقوقها خائن لأمانته, وكم من كاتب بح صوته وجفَّت مآقيه, وأصبح كمن {يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} لأن المجترحين لكرامة الأمة {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ }. ولكن الإصرار والصبر والمصابرة والمرابطة مؤذنة بانفراج الأزمات, وحل العقد, ولقد يكون من المعقول أن يراوح الكاتب في التناول بين النوازل, فإذا أمَضَّتْنا الأوضاع المؤلمة, أخذنا بمثل تلك الظواهر, كي نبعث في النفوس شيئاً من الآمال والأماني, لتكون في النهاية:
(مُنىً إن تكن حقا تكن غاية المنى.. وإلا فقد عشنا بها زمناً رغدا).
والحديث عن ظاهرة الكراسي البحثية التي ابتدرتها جامعاتنا, ودخلت بها مضامير اللزز, سيكون في النهاية من إشكالياتها, وطبيعي أن يختلف الناس حول الأهميات والمهمات والمفاهيم والنتائج, ولربما يكون اختلافُ وجهات النظر ناراً هادئةً, تُنْضج الأشيْاء, متى كانت مجالاً لِلْحجاج, وتجاذب أطراف الحديث, وكل قضية يمر بها المعنيون ثم لا تثير فضولهم, تعبر الساحة كما الأصوات التي تلامس الآذان, ولكنها (لا تلامس نخوة المعتصم) فتسمعه, ولا تستمع إليه, وكم هو الفرق بين السماع والاستماع, ولهذا فَرَّق الفقهاءُ بين سماع المنكرات واستماعها, وجميل جداً أن يتلقى الكتبة سائر المستجدات بالتساؤل والنقد والتقويم, وأجمل من ذلك كله, أن يختلفوا, ليكون المستهدف على بينة من أمره, وما كانت الشفافية وحرية التعبير لتؤدي نتائجها إلا بالجسارة على المساءلة ورفع الحصانة عن أي قضية استهدفت حاجات الأمة.
لقد جاء اهتمامي بظاهرة الكراسي مرتبطاً ومدفوعاً باشتراكي في ورشة العمل لبعضها, وسعيي كوسيط بين الموسرين ورغبة بعض الجامعات لتمويل كراسي جديدة, وأنا بهذه المقاربة والخلطة أكون خبيراً, كـ(بني لهب), ولن أعتمد الإطلاقات والتعميمات والمثاليات في مقاربتي لتلك الظاهرة, فالإطلاقات العشوائية كخرق السفينة من أحد ركابها, ومن يتوسل بحرية القول والفعل ليغرق في المدح الزائف أو القدح الجائر يعطل الجدوى من تداول القضايا, ولقد تفشت في أوساطنا المجاملات والمناكفات, وكلتا الطريقتين لا تغنيان من الحق شيئاً. والظاهرة من حيث هي ملمح حضاري, واقتداء بمن سبق, والخوف مما تخلفه الكثرة من سوء في التقدير, أو خطأ في التدبير, وفوق هذا فإن من جهل شيئاً أنكره, وإن كانت الكراسي من السنن الحسنة المأجور سانُّها.
وحضوري ورشة العمل وتدشين (كرسي معالي الشيخ عبدالعزيز التويجري للدراسات الإنسانية) بجامعة الإمام, كشف لي عن رؤية ثاقبة لأبناء الفقيد, وتحرف رشيد من الجامعة. وتحرك معرفي بمثل هذه المسؤوليات يعد تجاوزاً موزوناً من أروقة الجامعات إلى سوح الأداء, ومن أولويات مهمات الجامعات أن تكون بكل إمكانياتها وسط المجتمع, فرسالتها ليست قصراً على المخرجات البشرية, وتخطي الجامعات بكل إمكانياتها إلى سوح المجتمع إسهام إيجابي جاء متأخراً أو متعثراً, وهو من خلال مثل هذه الكراسي سيكثف الحضور, ويسد الخلال, وما كنت من قبل حفياً بهذه الظاهرة, لولا ما شاهدته من حراك حضاري, ما كنا نحسب الكراسي قادرة على أدائه, وورشة العمل التي ضمت لفيفاً من المثقفين والأكاديميين, أثبتت أن الجامعة تبحث عن الطريق القاصد, وما كشفه المؤتمرون في حفل التدشين يدل على أبعاد حضارية وثقافية واجتماعية, أجزم أن الكرسي سيتوفر عليها, ويوفرها للإنسان السعودي الذي تحتنكه ثورة الاتصالات وانفجار المعلومات, ومن يمد بسبب إلى هذه الكوى يصاب بالذهول والخوف على شباب الأمة الذين يتهافتون تهافت الفراش على تلك المواقع الموبوءة, ومن ذا الذي لا تخيفه تلك التقنيات الدقيقة المذهلة والإمكانيات المتاحة لناشئة الأمة والاستخدام غير الرشيد وغير السَّديد لها, ولقد سمعنا منكراً من القول يتفوه به, ويحبره بعض أبنائنا ممن زلت أقدامهم وضلت أفهامهم, وما لم تسهم الجامعات من خلال هذه الكراسي بتوعية الشباب, وتثبيت أفئدتهم, فإن الخرق سيتسع على الراقع, ثم لا ينفع التحرك بعد فوات الأوان.
والكرسي الذي يحمل مشروعه هماً إنسانياً, يجب أن يتصور منفذوه المشاكل الأكثر أهمية وإلحاحاً, ثم ليقيموا الدراسات الميدانية والمعرفية, وحين تستوي البحوث على سوقها, يجب أن تتخطى مرحلة التنظير إلى سوح التفعيل, وما لم تُفَعَّل النتائج, فإنها ستكون حلقة في سلسلة البحوث والدراسات المغيبة في خزائن المكتبات:
(وما انتفاع أخ الدنيا بناظره.. إذا استوت عنده الأنوار والظلم)
والمجتمع الخليجي والمجتمع السعودي بالذات يتجرع ضريبة الترف, وهي من أفدح الضرائب, ومؤشراتها استفحال حوادث المرور, وفشو المخدرات, وتفاقم العنف الأسري والطلاق والعنوسة والاتكالية وانعكاسات النسق الثقافي على قناعات الشباب وخياراتهم المتمثلة بالعزوف عن المهن بوصفها منقصة, وما لم نضيق الخناق على تلك الظواهر, فإنها ستؤدي إلى بطالة مصطنعة وكسل مستشر واتكالية معطلة للمواهب والمهارات, ومهمة الكراسي الدخول المباشر في تلك الغياهب, ومواجهة الذات بكل ما هي عليه من تشوهات. وهل أحد فكر وقدر, وعرف كم تزهق حوادث المرور من أنفس شابة, وكم تسقط المخدرات من كفاءات بشرية, وكم يؤدي النسق الثقافي إلى اتكالية موهنة, وكم يفكك العنف الأسري من روابط اجتماعية. ولو كشفت وزارة الداخلية ووزارة العدل ووزارة الشؤون الاجتماعية عما لديها من إحصائيات لأصيب الطيبون الغافلون بالذهول. وفوق ذلك كله ذلك الغزو الفكري الذي وسع قاعدة الغلو والتطرف والتمرد على سائر المؤسسات وأسهم في تصدع الوحدة الفكرية.
إننا نعيش حرباً ضروساً تتساقط في سوحها فلذات الأكباد, أجساماً وأفكاراً وأخلاقاً, وإذا عجز الإعلام والتعليم والمؤسسات الدينية عن محاصرة تلك الظواهر, فإن على تلك الكراسي أن تمارس تجاربها, لما تملكه من سخاء ومرونة في الإجراءات, وأن تتخطى إلى الشارع المضطرب, لتستوعب المشاكل, وتضع الحلول, وليس هناك أفصح من لغة الأرقام, ولقد تكون المكاشفة بداية التلافي, ذلك ما كنا نبغي لهذه الكراسي, وذلك ما كنا نتطلع إليه من ذوي الاقتدار. فهل يضع الموسرون أيديهم مع المتخصصين, لإيقاف التدهور المخيف؟ أرجو ذلك.