نهتم كثيرا، وبشكل واضح بصورة المملكة في الخارج، ونرسل الوفد إثر الوفد لإعطاء صورة صحيحة محببة عنا في الخارج، بل إن معظم مؤسساتنا أصبحت تولي الخارج أهمية يمكن مقارنتها بأهمية أدائها في الداخل، وأصبح الجميع يردد بمناسبة وغير مناسبة،
ولحاجة وغير حاجة عبارات العالمية والوصول إلى العالمية وضرورة النشاطات العالمية، وعلى الرغم من عدم وجود تعريف محدد للعالمية، والافتقار للمعايير المحددة لقياسها إلا أن الكثير منا يراها واقعاً محسوساً لا خيالاً افتراضيا، ويدعى وصالها ومصافحتها، ولا تثريب في ذلك إذا ما كان ذلك حافزاً لتحسين الأداء محليًا، ولكن من غير المقبول أن تتحول العالمية لإدعاء أجوف يلامس خيالاً دعائياً لا أساس حقيقي له، ويتحول لتطبيل أجوف.
ومن الخطوات الفعلية التي قامت بها بعض الجهات للسعي وراء “العالمية” تسليم جوائز ثقافية محلية في عواصم دول أخرى، وهو إجراء قد يكون لنا وجه السبق فيه عالمياً، أي أننا حققنا الريادة العالمية إجرائياً على الأقل.
وكذلك استجلاب ما يسمى خبرات دولية تكون أقل من المحلية، ومثله انتقال معارضنا من دولة لأخرى ليراها العالميون ولا يراها المواطنون، لأن المواطن ربما لم يتطور لديه الحس العالمي بعد الذي يتطلبه تذوق معارضنا العالمية المكلفة. ومعارضنا الخارجية تكون عادة على حسابنا نحن وليس على حسابهم، أو مناصفة (قطة بالمصطلح المحلي)، ولا تكون عادة بموجب دعوة مسبقة أو استجابة لطلب من جهات مماثلة.
ونحن نفترض أنهم يجهلون ما لدينا ولذلك لا يوجهون الدعوة لنا ونسامحهم في التكاليف فالخير واجد، ولذلك نذهب ونقدم لهم ما لدينا بمبادرة منا وبشبه الضغط عليهم، والمثل يقول بأن “من يزور من غير دعوة ينام من غير فراش”. فالغرب له حساباته في التواصل الثقافي مع الخارج، وهو يرصد لذلك ميزانيات ضخمة، فأمريكا، مثلاً، ألحت على مصر كثيراً وقدمت وعود وضمانات من أجل أن تعرض تمثال “كنغ تات آمون” في أمريكا لأنه يجسد كمال الفن التصويري القديم، وكان ذلك في احتفائية غير مسبوقة وبمعارض ومحاضرات مصاحبة لها، وقامت بذلك بناء على توصيات أكاديمية.
والجميع يعرف اليوم أهمية المنتجات الثقافية بكافة أشكالها لتحسين صورة الدول على المستوى العالمي، وقد لا تكون صورة دولة ما عادلة أو مطابقة للواقع إلا أن بعض الدول نجح أكثر من البعض الأخر في ترسيخ صورة ثقافية إيجابية له على الساحة العالمية، بينما يحتفظ البعض الآخر بصورة سلبية مهما تكلف.
وهذه الصورة لها دور كبير في تسويق جميع المنتجات الأخرى سواء كانت صناعية، أو تجارية، أو سياسية، فإسرائيل دولة عنصرية نازية تمارس القتل الوحشي بشكل يومي، ورغم ذلك فصورتها الثقافية العالمية صورة إيجابية جداً كدولة ديمقراطية تنتمي للصف الأول من الثقافات الإنسانية، بل إنها نجحت في السطو على كثير من المنتجات الثقافية العربية الفلسطينية وسوقتها على أنها منتجات يهودية، بالرغم من أننا لم نسمع عن معرض واحد مجاني، أو جائزة إسرائيلية قدمت في عاصمة أخرى.
فكيف نجحوا وأخفقنا نحن؟ لأنه وبصراحة تامة صورتنا في الخارج بالرغم من كل ما نبذله من أموال ومعارض مجانية وهدايا، لا تتناسب مع حقيقتنا كشعب له تراث عريق، وكمجتمع طيب، مضياف، ومتسامح لحد كبير.
القضية تكمن في الإستراتيجيات الثقافية غير الناجعة التي نتبعها، وفي فهمنا الخاطئ للعالم من حولنا، فمن أجل أن نتواصل مع ثقافات أخرى بشكل مثمر يجب أن ننطلق من فهم عميق لهذه الثقافات.
ويجب أن ننظر لإيجابياتهم لينظروا لإيجابياتنا، فنحن عندما نحب نبدئ المحاسن، وعندما نتخذ موقفاً سلبياً نبدئ المساوئ، وحقيقة فنحن حتى ولو عشنا في بلدان أخرى نتصرف وكأننا أهل الحقيقة المطلقة، وهم أصحاب الخطيئة الأبدية، ومع ذلك نريد منهم أن يروا فينا أحسن ما عندنا.
وهناك وللأسف إشكالية أخرى وهي تتعلق بازدواجية شخصيتنا، فنحن نفكر بشكل منطقي متسامح ونتصرف عكس ذلك بشكل متزمت، ونعتقد أن الآخرين لا يرون ذلك، أولا يلاحظونه! فأنت تجد رجلاً يمارس حياته بكل حرية وتسامح في الحالات الخاصة، وبعيداً عن الأنظار، وعلى نطاق ضيق مع أجانب العالميين، وعندما يسافر للخارج، ولكنه يبدو شخصاً آخر تماما في حياته العامة أو في مجتمعه، وعندما يتعلق الأمر بالحديث حول الأخلاق التي يجب عدم التسامح بها في المجتمع تجده يتشدق بما لا يؤمن به حقيقة، ولو من قبيل المزايدة فقط. ونحن أحياناً نريد أن نصل للعالمية الثقافية من خلال طرق مواضيع مغرقة في الخصوصية نريد العالم أن يعترف بها ونجهد بإقناعه بها. فإذا أردت أن تكون عالميا فعليك أن تراعي بقدر الإمكان المعايير الثقافية العالمية.
وهناك أمر آخر على قدر كبير من الأهمية، وهو عدم محاولة افتراض جهل العالم الخارجي، أو محاولة الالتفاف على تقديره للأمور، فالفرد الأوربي مثلاً تعود المجاملة كثيراً، وبعضنا قد يفهم هذه المجاملة على أنها سذاجة، ولكن الأوربي من الحنكة، والذكاء، والثقافة بحيث يجعلك تغادر وأنت تفترض هذه السذاجة منه حتى لا يؤثر ذلك على مصالح له معك. فهو ينظر لمعارضك وزياراتك من منظار الإشغال السياحي والفندقي، ومن قبيل إطلاع شبابه وشاباته على من تكون، وبمبدأ أن البلاش ربحة بيّن، ويحتفظ بالحكم النهائي عليك لنفسه. والغرب كذلك يعرف بالضبط من نكون، ولا يمكن تغيير معرفته ببساطة، فعندما يزور وفد محلي دولة غربية، وبالوفد مجموعة من النسوة، فهذا شيء جيد، ولكن ذلك لا يعني أنه سيرى أن هؤلاء النسوة يعكسن واقع المرأة لدينا، كما نتوهم نحن، فهو لن يتفهم لماذا تمنع المرأة من قيادة السيارة لدينا. وعموما تعود العالم أن يجابه بكثير من التحفظ الآراء التي تطرح من جانب واحد.
ولذلك فعلينا، فيما لا يخالف مخالفة صريحة أمور عقيدتنا، أن نحاول أن نتكيف مع العالم حولنا فعلاً أولاً ودعاية ثانياً، لأننا في نهاية المطاف جزء من هذا العالم ندور في فلكه ولا يدور في فلكنا. وهناك مسئولية كبرى تقع على الأجهزة الإعلامية والثقافية بهذا الخصوص.
وحينما تقوم قناة محلية تلفزيونية رسمية، مثلاً، بإذاعة برامج عن أشياء هي أقرب ما تكون للشعوذة، والخرافات بشكل متواصل، سيفهم من يشاهد هذه البرامج أنها جزء من الثقافة الرسمية للبلاد، وأن غالبيتنا يفكر هكذا. بينما في الدول الأخرى هناك قنوات مخصصة لمثل هذه الأمور تفاخر الدول بالتصريح لها كجزء من إتاحة الرأي الهامشي فقط.
وبالمقابل لدينا كم هائل من المنتجات الثقافية الممكن تسويقها ولكنها تحتاج لما يسمى بعملية التغليف المميز، والتسويق الجيد ليتقبلها العالم كمنتجات تعكس ثقافة القاعدة لا ثقافة القمة، أي بمعنى أنها لا تحتاج معارض رسمية، ولا مسئولين يسافروا معها لتسويقها، وإذا لزم الأمر فليسافر معها من أنتجوها. ولاختيار المنتجات الثقافية الملائمة دور كبير في ذلك فعندما تسافر بمجموعة راقصين جميعهم رجال يرقصون بخناجر حادة ويستعرضون شجاعتهم في رقصة حرب، فأنت تنقل صورة معينة عن مجتمعك كمجتمع حرب، فالمتلقي في الخارج لا يشاركك بالحاسة الشعرية الخاص بثقافتك بل سينظر لما تقدمه من خلال معايير هو والشعرية المتعارف عليها عالميا. والأمر يختلف عندما تنقل له منتجات فنية ذات محتوى إنساني عالمي، كالحب، أو السلام، أو التكوين الفني.
وهذا لا يعني أن نتخلى عن خصوصيتنا الثقافية والدينية، فالعالم قاطبة يعلم أننا مكان مهبط الوحي، وأننا الدولة التي تقع بها المقدسات الإسلامية، ولذلك فهو يتوقع منا أن نرعى نشاطات مرتبطة بهذه الجوانب، ونمثلها خير تمثيل. فالصناعات الثقافية هي أرقى المنتجات الإنسانية، وهي المقياس الحقيقي للرقي لا البنايات، والمطارات، والملاعب وغيرها مما تبنيه شركاتهم على أرضنا.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif