في عز أوج النهضة الإسلامية في القرن الرابع الهجري وقف بعض الفقهاء سداً منيعاً أمام تطور العرب المسلمين ليكونوا سادة العالم في العلوم والحضارة، أكتب هذه المقدمة بعد أن أتممت قراءة كتاب في غاية الأهمية عنوانه “الجذور العربية للرأسمالية الأوروبية” لمؤلفه جين هيك...، في هذا الكتاب بذل المؤلف جهداً علمياً خرافياً لأن يبرهن على أهمية الدور الإسلامي في نهضة أوروبا الاقتصادية، وتخليصها من العصور المظلمة التي عاشتها في القرون الوسطى.
ألمح المؤلف في مقدمته للإرث التجاري التي خلفته دولة قريش للأمة الإسلامية، التي كان لها دور كبير في نشر ثقافة التجارة وبدء جذور الرأسمالية في التاريخ، فالتاريخ يذكر لتلك القبيلة قدراتها الفائقة على التحكم في طرق التجارة في المنطقة، وإخضاعها للقبائل العربية من خلال السياحة الدينية والاقتصاد، وربط الكاتب هيك بين تلك الفترة وبين بدء رسالة الإسلام عندما أشار إلى أن النبي الكريم عمل في مجال التجارة وبحث عن الربح قبل الرسالة، التي هذبت من اندفاع الرأسمالية عندما حُرم الربا وظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وحث على التجارة، وساهم ذلك في التوسع التجاري الإسلامي خلال القرون الوسطى، مبينا أن السبب في هذا التوسع يعود إلى اعتراف الإسلام بالتملك الخاص والسوق الحرة ومشروعية طلب الربح والتكسب، مما جعل مجموعة من الأدوات التجارية والمالية تتطور في ظل الدولة الإسلامية..
أوضح الباحث أن بعض فقهاء المسلمين المتنورين في ذلك الوقت ابتكروا العديد من الحيل والمخارج للتوفيق بين متطلبات السوق العصرية من جهة وتعاليم الإسلام ومبادئه الأساسية من جهة أخرى. ويوضح المؤلف أنه بذلك تكوَّن شكل من أشكال الرأسمالية في الدولة الإسلامية يمجد العمل والإنتاج، ويسمح بالتملك الخاص والسعي لتحقيق الربح، ويؤمن بالسوق الحرة، كما أن بداية العصور المظلمة في أوروبا كانت سبب الدور المتزايد للكنيسة الذي أضعف روح المبادرة الفردية من خلال تمجيد الفقر وذم الغنى، وبالتالي إلغاء الحوافز الاقتصادية الضرورية للنشاط الاقتصادي، ونظرًا لازدياد تبادل التجارة الإسلامية الواسعة مع أوروبا استفاد الأوروبيون من الأفكار والمبادئ الإسلامية التي نقلوها عبر فترة من الزمن، وطوروها بعد ذلك لتشكل بذلك مشروعا رأسماليا يؤدي إلى انهيار النظام الإقطاعي الأوروبي.
جعل المؤلف من المدينة في عصر الخلافة الراشدة وفي دمشق في عصر الدولة الأموية، وفي بغداد في عصر العباسيين، وفي القاهرة في عصر الفاطميين المراكز الاقتصادية التي من خلالها تطور شكل من أشكال الرأسمالية الحديثة قبل أن يبدأ عصره الذهبي في أوروبا بعد انتقال التجارة العربية من خلال إنطاكية وقبرص وإيطاليا والأندلس، ورصد المؤلف المصطلحات التجارية التي انتقلت إلى قاموس التجارة الغربية بدءاً من الصك الذي أصبح الشيك، والديوان أو (douane)، وحتماً لا أستطيع في هذه العجالة رصد المصطلحات العديدة التي تم تغريبها ثم تصديرها إلينا مرة أخرى، وكأن بضاعتنا رُدت إلينا من حيث لا نعلم وتلك مصيبة أعظم..
تحدث المؤلف بإسهاب عن كيف تجاوز المسلمون إشكاليات الفائدة وتفادي الربا، وذلك مثل أن يبيع زيد لعمرو بوشلاً من القمح مقابل منتج آخر، بينما يبيع عمرو بعدئذ بوشلين من القمح مقابل شيء آخر، ومثل أن يبيع الذهب مقابل الفضة وهكذا، ومن بين أهم الأعمال التي أشار إليها لمؤلف كتاب المخارج في الحيل للشيباني توفي عام 188 هجرية، وتناول تأثير التأويل الإسلامي على الفكر المسيحي البروتوستانتي الإصلاحي، وأشار إلى أن مارتن لوثر وجون كالفن تأثروا كثيراً بالزخم التجاري الإسلامي عندما أكدوا أن السعي وراء الربح الشخصي ينسجم بالفعل مع عملية الخلاص، كما أظهره الإسلام في تعاليمه التي تعترف بالربح كقوة دافعة وراء المشاريع الفردية.
يرى المؤلف أن توقف المد الإسلامي في أوروبا على إثر معركة بلاط الشهداء (114 هـ- 732م)، التي يحتفي بها الأوروبيون ممجدين فيها نجاح شارل مارتيل بإيقاف الزحف العسكري الإسلامي، أنه الحدث على وجه الدقة الذي أدى إلى هلاك أوروبا عبر تطورات سياسية واقتصادية ودينية، وأسس لسلطة الكهنوت الكنسي وتحكم رجال الدين في الأراضي وبدء عصر الإقطاع.
عندما أتممت قراءة ذلك المجد الضائع، تذكرت فتاوى بعض الفقهاء المعاصرين التي تحرّم الرأسمالية والتنافس على الأرباح، على أنها منتج غربي، وشعرت بالأسى لما وصلنا إليه من تسطيح لتاريخ أمتنا المجيد، الذي تم اختزاله في أمور هامشية.