ارتأينا من خلال المقالات الأخيرة إزالة ما قد نراه من الغبش الفكري الذي يتراكم اليوم على بعض الحقائق الجلية، تحت تأثير نظريات جاحفة وأحقاد شخصية، وهذا من شأنه أن يمد جسور الفهم المشترك ويقوي من الوشائج في سبيل بناء الأسرة الإنسانية الواحدة.
وتحت سلطان المبدأ العقلي المتزن، يجب على كل ذوي العقول النيرة نسج الأحكام وإبرازها لمد جسور الفهم والتعايش بين المسلمين وغيرهم، وترسيخ الجامع المشترك لإزالة كل التضاريس النفسية والاجتماعية التي قد تترعرع في ظل العصبيات والكثير من مشاعر الضغائن والأحقاد.
فالاختلاف هي ظاهرة كونية عامة جعلها الله عز وجل سنة في خلقه وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ (22) سورة الروم، وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم (المائدة-48)، وهذا الاختلاف يحث على إثارة السؤال عن كيفية الاستفادة منه، والجواب يكمن في الحوار، والإسلام الذي كان رائدا في ترسيخ ثقافة الحوار وبلورة حضارة عم إشعاعها كل العالم، قام على حوار الحضارات والتعايش مع الأديان، والله عز وجل أقام هدايته للعالمين على أساس الدعوة إلى التوحيد بالتي هي أحسن، وأنه لا إكراه في الدين، بل يعطي لنا القرآن صورة هذا الحوار الذي جرى في عالم الغيب والشهادة قبل وجود الإنسان جاعلا من اختلاف الشعوب والقبائل سبيلا للتعارف والتلاقح والتآزر يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (الحجرات-13).
من هنا فإن المسلمين ليس لهم مشكل مع الحوار، فالقرآن مبني على الحوار ويحدد منهجه ويقدم مجموعة من المصطلحات المتصلة به، وطبق الحوار على أصعدة مختلفة ومستويات متعددة، إذ حاور الله تعالى الملائكة والرسل، بل وحتى إبليس؛ وقد وصل هذا الحوار إلى حد الرغبة في الاطلاع الملموس على الكيفية التي يحيي الله بها الموتى، مما ينم في الحقيقة على سعي إلى المعرفة اليقينية القائمة على الرؤية البصرية، والمعني بها ليس إبراهيم عليه السلام، ولكن غيره من الذين قد يسألون أو يشكون: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (البقرة-260)؛ والإسلام يقر بحرية الإنسان، ولاسيما في مجال الفكر والاعتقاد ونظرته الموسعة إلى الاختلاف الذي يجسد تلك الحرية؛ لأن الحديث عن إقرار الحوار أو مشروعيته في غياب الحرية وحق الاختلاف سيكون ضربا من التناقض؛ كما أن نشوء المذاهب الاعتقادية أو الكلامية والمذاهب الفقهية مظهر صحي للحضارة الإسلامية؛ حيث جسدت ثقافة الحوار واحترام الاختلاف والتعددية الفكرية؛ ذلك أن أهم ما ينبغي تسجيله في سياق تأصيل مناهج الحوار والمناظرة وآداب الحديث في الثقافة الإسلامية هو أن العلماء الذين صنفوا في فنونها انطلقوا من مبدأ طلب الحق في مناظراتهم والدفاع عما بدا لهم حقا في جدلهم، واضعين لهذا الجدل آدابا وشروطا وأهدافا، جعلت من انتهاج الحوار العلمي والعقلي والفقهي صناعة منهجية محكمة القواعد والأصول.
وفي هذا المجال الواسع تعايش المسلمون والنصارى واليهود في بيئة واحدة؛ فظلت الكنائس والبيع مثل المساجد الإسلامية بيوتا للصلاة والعبادة بالنسبة لأتباعها، وتستفيد من العهود والمواثيق المبرمة بين أهلها وبين حكام المسلمين؛ «فالآخر» أيا كانت ديانته لم يكن يمثل مشكلة لدى العقل الفكري المسلم لسبب واحد هو أن الإسلام رسم مجموعة من المحددات حكمت هذه العلاقة يمكن تلخيصها في ستة أمور:
1 - التذكير القرآني المستمر بأخوة بين الإنسان وكونهم خلقوا من نفس واحدة وهذا الانتماء يمثل أول القواسم المشتركة بين المسلمين وغيرهم.
2 - تقرير حق كل إنسان في الكرامة حتى يقدم القرآن الإنسان - كل إنسان - باعتباره مخلوق الله المختار «ولقد كرمنا بني آدم» .
3 - الاختلاف بين الناس أمر واقع بمشيئة الله تعالى وسنة من سنن الله في الكون.
4 - الآخر إذا كانت له شرعيته بمقتضى انتمائه الإنساني، فإن المؤمنين بالله منهم يكتسبون شرعية إضافية، حيث يشكل ذلك الإيمان وشيجة أخرى توسع من دائرة التواصل.
5 - ديانة الآخر في الشريعة الإسلامية لا تنتقص من حقوقه فله ما لنا وعليه ما علينا، وشأن العقيدة يبقى موكولا إلى الله سبحانه وتعالى.
6 - وهي نتاج كل المحددات السابقة، ذلك أنها تمهد الطريق للاستجابة للتوجيه الإلهي الداعي إلى التعاون فيما فيه خير البرية، وهذا التواصل تحقق داخل الحضارة الإسلامية على مدار التاريخ وله شواهده الكثيرة؛ وما كل الفسيفساء التي تتوزع على أرجاء العالم العربي والإسلامي إلا دليل على أن كل آخر حفظت له الدولة الإسلامية كرامته وحقه في المشاركة والبناء؛ ويعرف الباحثون جيدا أن الحضارة الإسلامية لم تقم على أكتاف المسلمين وحدهم، وإنما كان لغير المسلمين إسهامهم المقدر فيها، سواء كانوا يهودا أو نصارى، ويعرف هؤلاء جيدا أن المسلمين ما فتحوا بلدا إلا وأبقوا على كل مقوماته الثقافية والاجتماعية كما هي؛ والعالم الغربي قلما يتذكر إسهام الحضارة الإسلامية والتي كان يتواجد أحد مراكزها بإسبانيا، في تعميم المعارف الجديدة في مجال العلم والفلسفة والأدب والقانون والطب وغيرها من المجالات؛ وبالإمكان أن نتوقف هنا عند ابن رشد فيلسوف قرطبة الشهير، الطبيب والفقيه الذي عرفه الغرب كشارح لأرسطو، وعند حنين بن إسحاق البغدادي الذي ترجم جزءا كبيرا من مؤلفات «هيبوغراط» و»غاليانوس» وألف كتبا في الطب والصيدلة، وعند ابن ريان الطبري الذي دون «كتاب الفردوس» في الطب واشتهر به، وعند ابن سيناء «الشيخ الرئيس» الذي ألف موسوعة شهيرة عنوانها «القانون في الطب» الذي صار مرجعا ضروريا للدراسات الطبية في الشرق وفي الغرب إلى جانب كتب الرازي والزهراوبي وابن رشد، وبالإمكان أن نتوقف عند علماء العرب والمسلمين الذين ترجموا المؤلفات اليونانية والهندية في الهندسة والجبر والحساب، ومن بين هؤلاء ابن موسى الخوارزمي وثابت بن قرة وابن البناء المراكشي والقلصادي الأندلسي، واطلع علماء العرب على أغلب النصوص اليونانية وعالجوها معالجة نقدية كالبيروني الذي انتقد أرسطو كما جاء في مراسلاته مع ابن سينا، وقام مؤلفو الموسوعات كالرازي وابن سينا بمعالجة العديد من مسائل العلوم الفيزيائية والطبيعية، وتميز ابن الهيثم في الفيزياء بكتابه الشهير في علم البصريات «كتاب المناظر»، والأمثلة كثيرة، وهنا أستشهد بالعالم برناد لكسيس الذي وصف الحضارة العربية الإسلامية عندما أتيحت له فرصة إعادة رسم تاريخ المنطقة العربية: «لقد كان العالم الإسلامي على مدى قرون عدة، في طليعة الحضارة الإنسانية وإنجازاتها، والإسلام قد خلق حضارة متعددة الأعراق، حضارة عالمية، لقد شكلت هذه الحضارةكبر قوة اقتصادية في العالم، إذ بلغت ذروتها الحضارية على مستوى الفن والعلم، لم يشهد لهما التاريخ البشري مثيلا».
إن مساهمة الثقافة العربية والثقافة الإسلامية في بلورة وتطور الثقافة العالمية هو مظهر من مظاهر التفاعل الثقافي الذي نعتبره رديفا للتفاعل الحضاري، وتدخل المنهج القرآني الذي ثبت مفهوم الاختلاف وجعله من سنن الاجتماع البشري ليس المقصود به إلغاء الاختلاف بل الوصول بالمعرفة والحوار إلى التعارف وتعرف كل من الطرفين للآخر.